خلال الآونة الأخيرة زاد النقاش في الداخل التركي حول مشروع قناة اسطنبول، الذي يلقبه البعض بـ”المشروع المجنون”. ويأتي هذا النقاش في وقت بدأت فيه الحكومة التركية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، بأخذ خطوات فعلية في تنفيذ المشروع.
والمشروع الكبير عبارة عن شق قناة تربط بين البحرين الأسود ومرمرة، بموازاة مضيق البسفور. ومن المفترض أن تقسم هذه القناة الجزء الأوروبي من مدينة اسطنبول إلى جزأين، وبذلك يكون الجزء الشرقي من “اسطنبول الأوروبية” جزيرة.
جدل حول مشروع القناة..
وقد تحدث الرئيس أردوغان في غير مرة عن فوائد هذا المشروع، حيث صرح أن أحد أهدافه هو تقليل العبء على مضيق البسفور، وتوفير الأمن له، وحمايته من أي حوادث للسفن، خصوصًا في ظل تزايد أعداد السفن التي تمر من خلاله. كذلك أعلن أردوغان أن المشروع من شأنه أن يضاعف عدد السفن التي تستخدم اسطنبول ممرًا له، الأمر الذي سيكون له مردود إيجابي على الاقتصاد التركي بالتأكيد.
لكن أحزاب المعارضة التركية، وبالأخص الحزب الرئيسي فيها، حزب الشعب الجمهوري، يعارض المشروع بشدة، ويرى أن نتائجه سلبية. وتعتمد المعارضة في سرديتها على بعض النقاط. أولها هو تكلفة المشروع، حيث من المتوقع أن تبلغ تكلفته 140 مليار دولار. وعلى هذا ترى المعارضة أن انفاق هذه الأموال بشكل مباشر في مرافق خدمية للشعب أولى من حفر القناة. والنقطة الثانية التي تروج لها المعارضة حول القناة هو أنها ستفسد التّوازن البيئيّ حولها، وستزيد من مخاطر وقوع الزلازل.
تأثير القناة على اتفاقية مونترو..
لكن ربما يكون أخطر الاعتراضات على قناة إسطنبول، هو ما جاء في البيان الذي أصدره 103 من الضباط الأتراك المتقاعدين برتبة أميرال منتصف ليل الأحد الموافق 4 أبريل/نيسان الجاري، والذي انتقدوا فيه إنشاء قناة إسطنبول، بل وربطوا الأمر باتفاقية مونترو الموقعة عام 1936، والتي تعطي لتركيا الحق في السيطرة على مضيقي البوسفور، والدردنيل، وتنظيم مرور السفن الحربيّة عبرهما.
حيث حاولوا إقناع الشعب أن مشروع القناة سيكون ملفًا يستهدف أمن تركيا، لأنه سوف يُبطل اتفاقية مونترو، حسب زعمهم. كما أشاعوا أن القناة سوف تسبب بمشكلات لتركيا مع القوى العالمية الكبرى، لأنها ستغير بعض الأوضاع الدولية المستقرة منذ حوالي قرن من الزمان.
وحسب اتفاقية مونترو، فإن قوات الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكنها الدخول إلى مياه البحر الأسود إلا لمدة زمنية محددة، وبأسلحة ومعدات محدودة، الأمر الذي لا ينطبق على روسيا والدول المطلة على البحر الأسود. ولأن قناة إسطنبول لن تخضع – في الغالب- لاتفاقية مونترو، فإن ذلك سوف يمكن الولايات المتحدة من تكثيف وجودها في البحر الأسود، وذلك قد يتسبب في تدهور العلاقات مع روسيا، حسب رأي المعارضين للمشروع.
هل ادعاءات المعارضين لها وجاهة؟
ربما يبدو للوهلة الأولى عند سماع ادعاءات المعارضة التركية – سواء كانت مدنية، أم من العسكريين المتقاعدين- أن مشروع القناة كارثي، إلا أنه بالنظر يتبين أن المعارضين للمشروع يفوتهم بعض النقاط المهمة.
أول هذه النقاط، هي أن القناة تقع في قلب إسطنبول، أي أنها خاضعة بالكامل للسيادة التركية. وبالتالي، فإن تركيا لها الحق في أن تقرر كيفية إدارة القناة، ومَن يتواجد فيها، ومتى، وكيف، ولأي مدة. أي أنها سيكون لها اليد العليا في تسييرها، الأمر الذي يعطي لها أفضلية عالمية، ويزيد من أهميتها الجيوسياسية.
النقطة الأخرى، هي أن تركيا مرور السّفن التجاريّة والعسكريّة عبر القناة سيساهم في تعزيز العلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف لتركيا. الأمر الذي سوف تستغله القيادة التركية لتعزيز وضع تركيا الجديد على الساحة الإقليميّة والدوليّة.
علاوة على هذا، فإن اتفاقية مونترو تكبل تركيا اقتصاديًا، حيث لا يمكنها تسعير مرور السفن في مضيق البسفور بحرية كاملة. في المقابل، فإن أنقرة سيكون لها الحق كاملًا في وضع ما تراه مناسبًا من تسعيرات لمرور السفن عبر القناة، وهذا سيكون عاملًا إضافيًا داعمًا للاقتصاد التركي الطموح، بطبيعة الحال.
وعودًا إلى اتفاقية مونترو، فإن ربط الاتفاقية بمشروع القناة، بحيث يلغي أحدهما الآخر هو ربط خاطئ. ذلك أن تركيا تستطيع أن تطبق اتفاقية مونترو على كل مضائقها التاريخية، في الوقت الذي تخضع فيه القناة لقوانين جديدة، ولا مانع من أن يسير الأمران جنبًا إلى جنب.
وهذا ما أكد عليه الرئيس أردوغان حين قال في معرض رده على بيان الضباط المتقاعدين: “إن ربط قناة إسطنبول باتفاقية مونترو خطأ كبير، فقناة إسطنبول ستخفف العبء عن مضائق إسطنبول، وستُتيح لتركيا بدائل سيادية أخرى بمعزل عن القيود التي فرضتها اتفاقية مونترو”، مضيفًا أنّ مشروع قناة إسطنبول لن يُضعف حقوق تركيا السيادية بل على العكس سيعززها.
ضرورة حيوية لتركيا..
ومؤخرًا، أعلن أردوغان أن حكومته أوشكت على إتمام الاستعدادات اللازمة من أجل مشروع شق قناة إسطنبول، مؤكدًا أنها ضرورية بالنسبة لتركيا. حيث صرح أن عدد السفن المارة من مضيق البوسفور ارتفع إلى أكثر من 40 ألفا سنويًا، بينما كان في ثلاثينات القرن الماضي حوالي 3 آلاف فقط، مشيرًا إلى أن عدد السفن المارة من مضيق بنما نحو 13 ألفا سنويًا، ومن السويس حوالي 17 ألفًا.
وأوضح الرئيس التركي أن القدرة الاستيعابية للمرور الآمن للسفن عبر مضيق البوسفور يبلغ 25 ألفًا، ما يجعل بلاده تواجه صعوبات في تسيير العدد الحالي من السفن عبر المضيق. ولذا فإن “قناة إسطنبول” ستكون متنفسًا جديدًا للمنطقة – حسب أردوغان – وأنه من المخطط أن يبلغ طولها 45 كلم، وعمقها 21 مترًا، وعرض قاعدتها 275 مترًا.
إذن، فمن الواضح أن إيجابيات القناة تفوق سلبياتها – إن وجدت – بل إن الإيجابيات أكثر جوهرية بكثير من السلبيات. وربما يكون هذا المشروع هو الأهم منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة.
اقرأ أيضًا: يصل البحر الأسود ببحر مرمرة.. تعرف على قناة إسطنبول الجديدة التي تنوي تركيا إنشائها
اضف تعليقا