بعد الصراع المستمر منذ ما يزيد عن الشهرين بين الرئيس التونسي، قيس سعيد، ورئيس الحكومة، هشام المشيشي، على خلفية إجراء الأخير تعديلات وزارية أقرها البرلمان ورفضها سعيد ولم يقبل استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية أمامه.

يأتي صراع آخر بين الرئيس، الذي اختار الصدام مع الجميع شعارًا لعهدته، وبين مجلس نواب الشعب، حيث رفض سعيد مشروع قانون تعديل المحكمة الدستورية الذي صادق عليه البرلمان في 25 مارس/ آذار الماضي.

ومن المهم إدراك أن الدافع الرئيس الذي جعل سعيد يرفض التعديلات، ليس قانونيًا بقدر ما هو دافع سياسي. وهو ما أكده في خطابه في الذكرى الحادية والعشرين لوفاة الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، الأسبوع الماضي.

 

  • رفض أزعج النخبة السياسية..

 

ابتداء، فاجأ الرئيسُ الجميعَ عندما اعتبر بشكل ضمني في الرسالة التي رد فيها على البرلمان، أن المحكمة الدستورية فقدت أهميتها نتيجة تجاوز الآجال القانونية التي وضعها من وضعوا الدستور.

 حيث إن المجلس الوطني التأسيسي الذي ختم أعماله عام 2014، وضع عدداً من الشروط لإنشاء المحكمة؛ واحد من هذه الشروط أن يتم إنشاء المحكمة الدستورية في آجال محددة لا تتجاوز السنة بعد الانتهاء من الدستور، أي في مهلة لا تتعدى عام 2015.

وبدا سعيد كأنه -بهذا الاعتراض- يقول للنخب السياسية التي تحمّست لتمرير المحكمة وإنشائها: “فاتكم قطار الزمن”، حيث كرر ذلك بوضوح في خطاب المنستير.

وكان رد سعيد سببًا في إزعاج الكثيرين، حيث أوقع الجميع في حيرة، أحزابًا وسياسيين وخبراء مختصين في القانون الدستوري. 

كما اعتبر كثيرون أن الرئيس حشر ذاته في زاوية ضيقة، لأنه في صورة رفضه التوقيع على مشروع القانون بعد القراءة الثانية يرتكب خطأ جسيماً، من الممكن أن يعطي مبررًا للذين يطالبون بعزله بشكل نهائي.

 جدير بالذكر أن فقهاء القانون الدستوري حازوا أهمية متميزة منذ اندلاع الثورة في عامي 2010 و2011، وحتى الآن. 

ومع وصول سعيد إلى قصر الرئاسة، وجد فقهاء القانون أنفسهم متصدرين للمشهد، وذلك على خلفية جدالات متواصلة بين الرئيس والمؤسسات الدستورية أو الأحزاب السياسية حول تأويل بعض فصول الدستور. 

وبالرغم من أهمية هذا النقاش في بلد يخوض للمرة الأولى تجربة ديمقراطية صعبة وهشة، لكن من غير المقبول بأي حال من الأحوال اختزال الحالة التونسية في بُعد واحد، أو إطار واحد، وهو الإطار الدستوري أو القانوني.

 

  • انتقادات من زملائه..

 

كذلك يواجه رئيس الجمهورية اعتراضات وانتقادات جادة من قبل بعض زملائه، ومن هؤلاء المحامي أحمد صواب، القاضي الإداري، والذي اعتبر بدوره أن موقف الرئيس من مشروع القانون “غرابة تزيد في اغتراب الرئيس في الزمان والمكان”. مضيفًا: “كأني به يقول: طالما أنا هنا لن تتحقق المحكمة الدستورية”، كما أشار إلى أن هذا الموقف “ضرب لشرعية المجلس الأعلى للقضاء، الذي تم تركيزه أيضاً بعد تجاوز المدة القانونية”. 

كذلك أعلن زميله السابق بجامعة تونس، جوهر بن مبارك، اعتراضه على ما ذهب إليه الرئيس، حيث قال إن أن رئيس الدولة “سيجد نفسه مخالفاً للدستور من ثلاثة أوجه على الأقل”. مع الإشارة إلى أن ابن مبارك كان أحد أبرز المدافعين عن سعيد في مراحل سابقة.

ومن المحتمل أن يؤدي موقف الرئيس سعيد إلى يقع الجميع في مأزق، بسبب إصراره على رفض تعديلات قانون المحكمة الدستورية، حيث إن نصوص الدستور تفرض عليه التوقيع وعدم رفض مشروع قانون سبق أن خضع لقراءة ثانية. 

وحال رفضها، فسيكون قد ارتكب ما يصفه بعض الدستوريين “خطأ جسيماً”، لكن السؤال الذي يطرح نفسه؛ من هي الجهة التي ستحدد هذا الخطأ، إن كان جسيماً أم لا في غياب المحكمة الدستورية؟. 

وعليه، ليس هناك بديل عن المحكمة، وغير ممكن أو مقبول أن ينصب الرئيس نفسه بديلًا عنها ويؤدي دورها، لأن ذلك سيكون مخالفًا للدستور، ولن يحظى بقبول الأحزاب السياسية التي لا يؤمن بها سعيد من الأساس.

ويأمل الرئيس -من خلال الأزمة الراهنة- في الدفع تجاه حل البرلمان، وهو ما لوحظ من تصرفات أنصاره، الذين يرفعون -تزامنًا مع تحركاته- شعارات بارزة في وسائل الإعلام تطالب بحل البرلمان.

جدير بالذكر أن الرئيس غير قادر، وليس من حقه دستوريًا، أن يقدم على خطوة كهذه بمفرده. علاوة على أن هذا التحرك قد يكون بالنسبة له ذو حدين، فهو يخشى من احتمال أن تتحول المحكمة إلى سلاح ضده، يؤدي في النهاية إلى سحب الثقة منه، لا سيما وأن بعض النواب قد دعوا لإزاحته بالفعل.

 

  • معركة تكسير عظام..

 

من الممكن وصف ما يحدث الآن في تونس على أنه معركة تكسير عظام أو عض أصابع بين الرئيس من جهة، ومجلس النواب والحكومة ومعارضي الرئيس من جهة أخرى، وهو ما كان سببًا في تأجيل البرلمان، الأربعاء الماضي، جلسة انتخاب الأعضاء الثلاثة المتبقين في المحكمة الدستورية، من أصل 12 عضوًا، والتي كان مقررًًا عقدها الخميس، وأُعلن التأجيل إلى أجل غير مسمى.

كما تقرر عقد جلسة عامة خلال الأسبوع الجاري، لمناقشة نص الرسالة التي بعث بها الرئيس إلى مجلس نواب الشعب.

وهو ما فسره مراقبون على أنه محاولة لكسب الوقت لتعميق التباحث والنقاش بين الكتل السياسية، في محاولة للبحث عن صيغة تحول دون حدوث قطيعة تامة بين الرئيس والبرلمان، أو بالأحرى الأغلبية البرلمانية، ممثلة في حركة النهضة، التي باتت مقتنعة بأن التفاهم مع الرئيس حلم قد يكون بعيد المنال، بسبب توجهاته الصدامية ورؤاه المختلفة جذريًا.

اقرأ أيضًا: رئيس تونسي سابق ينتقد زيارة “سعيد” للسيسي