كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حريصا على إظهار الاعتزاز والتمنع بشكل واضح، خلال زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى موسكو، تمنعا قرأه مراقبون أنه إحدى إرهاصات الغيرة من السخاء السعودي الأخير مع الولايات المتحدة والرئيس ترامب.

والواقع أن بوتين يعلم أن سخاء الرياض الأسطوري مع واشنطن مؤخرا كان ناتجا عن استراتيجة الإحساس بالخطر والحاجة الشديدة إلى الأمن والحماية وصياغة شراكة من نوع جديد مع الأمريكيين تضمن لـ”آل سعود” استمرارا في الحكم دون منغصات وجودية…

المفارقة أن الولايات المتحدة لم تتجاوب بالشكل الكافي مع الحفاوة السعودية، وهنا يجب على روسيا أن تقول بوضوح إنها يمكن أن تكون بديلا، بعلاقاتها الجديدة في الشرق الأوسط، والتي أسست لانطلاقة جديدة ومختلفة لموسكو كمركز ثقل عالمي شديد الأهمية في المنطقة.

سلمان وترامب

روسيا الجديدة

علاقات روسيا مع إيران، رغم أنها شديدة التعقيد حاليا إلا أن موسكو لا تزال تملك نفوذا حقيقيا في طهران يفوق النفوذ الأمريكي بكثير، علاوة على المتغيرات الجديدة في سوريا، والتقارب بين الروس والأتراك، وصولا إلى صياغة تصور مشترك لأول مرة بين أردوغان وبوتين، كل ما سبق كان يستدعي من السعوديين تجاوز الكثير من “ثقل دم” بوتين، إن صح التعبير.

“ثقل دم” بوتين لم يكن في لقطة غيابه عن استقبال الملك سلمان بالمطار، فالأمر قد يكون له مخرج بروتوكولي، كما قال البعض، ولا حتى في وقوفه داخل الكرملين وعدم تحركه، بينما كان العاهل السعودي يشق طريقه في الردهة الواسعة للوصول إليه بخطى متثاقلة، لكن تصريح الرئيس الروسي المفاجئ بأنه “لم يقترح” تمديد اتفاق خفض إنتاج النفط مع المملكة كان مثيرا للاستياء السعودي “المكتوم”.

 

سلمان في مطار موسكو

اتفاق خفض النفط

المثير أن بوتين قبلها بيوم، تقريبا، تحدث عن عدم ممانعته وتفهمه لتمديد الاتفاق حتى 2018 بأريحية تامة “بناء على ظروف السوق”، وبالتوازي مع هذا الحديث كان الرئيس التنفيذي لشركة غازبروم نفط الروسية “ألكسندر دويوكوف” يؤكد دعمه تمديد الاتفاق.

ما سبق بات يعني أن السعوديين هم الآن من يلحون على روسيا في أمر تمديد اتفاق تخفيض النفط، بعد أن كانت المعادلة مقلوبة في سنوات سابقة.

ربما كان بوتين يريد أن يرد على المملكة بأسلوبه الخاص، بسبب تجاوزها الحد الأقصى المسموح لإنتاج النفط، وفقا للاتفاقية التي كان يريدها الروس بشدة، وذلك في يوليو الماضي، عندما أبلغت الرياض منظمة “أوبك” أنها تجاوزت الحد الأقصى المسموح لإنتاج النفط ضمن اتفاق فيينا النفطي، في يونيو بواقع 10.07 مليون برميل نفط خام…

 

منظمة اوبك 

ما يعني أنها كانت تنتج 190 ألف برميل يوميا بالزيادة، وذلك للمرة الأولى منذ توقيع الاتفاق بين عدد من منتجي الخام، ما وضع “أوبك” في وضع حرج، بسبب تخمة المعروض واستمرار انخفاض أسعاره.

الرد الروسي

حينها أيضا كان السعوديون لا يزالون قادرين على المناورة أكثر من الآن، بالتأكيد هم قادرون على تحمل انخفاض الأسعار، بسبب الاحتياطات النقدية الهائلة التي يملكونها، لكن تلك الخطوة أزعجت الروس، ويبدو أن بوتين لا ينسى الإهانة بسهولة، رغم أن الأوضاع قد تغيرت، وأن السعوديون هم من جاء إليه هذه المرة، وعبر الملك، وليس ولي العهد، وإن كان الأخير ينظر إليه على أنه الحاكم الفعلي للمملكة.

ما سبق لا يعني أن السعوديين فقط هم من يحتاجون إلى الروس، فالمنافع متبادلة، وإن كانت اقتصادية أكبر منها سياسية.

الاقتصاد والطاقة

عندما يتعلق الأمر بالطاقة والاقتصاد، تتداخل مصالح روسيا والسعودية أكثر من أي وقت مضى.

ومن المتوقع أن يكون العائد الاقتصادي لزيارة هذا الأسبوع كبيرا، حيث أعلنت شركة النفط السعودية، أرامكو، وصندوق الاستثمار المباشر الروسي عن صندوق بقيمة مليار دولار لمشاريع الخدمات النفطية في روسيا والمملكة، وسوف ينشئ الصندوق صندوقا للتكنولوجيا تبلغ قيمته مليار دولار.

متوقع أيضا أن تعلن الحكومة السعودية عن استثمار بقيمة 150 مليون دولار في شركة أوراسيا للتنقيب.

 

شعار شركة أرامكو السعودية 

ومن المنتظر أن تناقش أرامكو السعودية استثمارا محتملا في مشروع الغاز الطبيعي المسال في القطب الشمالي التابع لشركة نوفاتيك، وأن تتحدث عن مشروع مشترك مع شركة سيبور القابضة لبناء مصنع لتصنيع المطاط الصناعي. وسيتم التوقيع على مذكرات تفاهم، وقد وافقت مؤسسة الصناعات العسكرية السعودية بالفعل على البدء في التفاوض بشأن إمكانية شراء عدد كبير من الأسلحة والمعدات العسكرية الروسية.

ويعد الدور الفعال لروسيا والسعودية، باعتبارهما اثنين من أكبر ثلاثة منتجين للنفط في العالم، أمرا حيويا لأي عمل منسق على الصعيد العالمي في أسواق النفط، وتتماشى مصالحهما في الوقت الراهن.

أيضا لدى المملكة احتياطيات كبيرة من العملة الصعبة تحتاجها روسيا لمشاريع لا تعد ولا تحصى.

من جانبها، تحتاج المملكة إلى دعم روسيا لخططها للطاقة، والتي تعتبر حيوية لرؤيتها الاقتصادية لعام 2030، باعتبار الخبرة الكبيرة للروس في منشآت الطاقة.

جمهوريات الإزعاج لروسيا

روسيا تريد أيضا من السعودية عدم إثارة المتاعب في مناطقها الإسلامية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، كالشيشان وتتارستان، وكانت موسكو تتهم الرياض  بتمويل المناطق الإسلامية الانفصالية في روسيا في التسعينيات، الأمر الذي أدى إلى حربين وحشيتين في شمال القوقاز.

من ناحية أخرى، تعتبر الزيارة اعترافا ضمنيا بأن روسيا أصبحت عنصرا رئيسيا في غرب آسيا، ولم يعد بإمكان الاتفاقات الاستراتيجية في المنطقة أن تتجاهل مصالح موسكو.