العدسة – منصور عطية

بعد أن كانت مجرد لعبة شعبية للتسلية في المجالس، قهرت لعبة الأوراق في السعودية، والتي تسمى هناك “البلوت” أو “الكوتشينة” في دول أخرى، نحو 40 عامًا هي عمر الفتاوى الرسمية بتحريمها.

وأصبحت مرخصة رسميًّا باعتراف الحكومة، بل وأنشئت من أجلها بطولة دُعي الشباب على مستوى المملكة للتسابق فيها، من أجل حصد جوائزها المقدرة بمليون ريال.

لعبة الملك المفضلة

فاجأ حساب الهيئة العامة للرياضة، السعوديين بنشر خبر مفاده، أن رئيس مجلس الإدارة “تركي آل الشيخ” وافق على إطلاق بطولة المملكة للبلوت، وأن يكون للبطولة كأس تحمل اسمها، وتقام خلال الفترة ما بين 4 و8 أبريل القادم، تحت إشراف الاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية والذهنية.

وجاء في بيان الخبر أيضا أن للبطولة جوائز مالية قدرها مليون ريال سعودي، توزع على النحو التالي: نصف مليون ريال لصاحب المركز الأول، و250 ألف ريال للثاني، و150 ألف ريال للثالث، و100 ألف ريال للرابع.

وعين “آل الشيخ” لاعب كرة القدم السابق “شويش الثنيان” مديرا للبطولة، وسوف تستقبل الهيئة التسجيل من قبل اللاعبين الراغبين بالمشاركة مطلع الأسبوع القادم عن طريق الموقع الذي سيتم تدشينه لذلك.

وفجّر الخبر موجة غير مسبوقة من السخرية والانتقادات اللاذعة في مواقع التواصل الاجتماعي، عبر وسم (#بطولة_المملكة_للبلوت)، ورغم أن لعبة البلوت تحظى بشعبية واسعة جدا في منطقة الخليج العربي، وتتربع على عرش التسليات في المجالس اليومية للشباب هناك، إلا أن الأمر -وفق المشاركين- لا يستحق أن تقام له بطولة بجوائز مالية ضخمة.

اللافت، أن القرار يأتي بعد أسابيع من انتشار واسع لمقطع مصور يظهر العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وهو يشارك من وُصفوا بأصدقائه وأقاربه لعبة البلوت، فيما نقل المغرد الشهير “العهد الجديد” أن الملك أدمن اللعبة ولا يتركها إلا لتناول الطعام.

البلوت تقهر التحريم!

ومن المثير أن غضب السعوديين انصب على ما اعتبروه سخافة من قبل المسؤولين، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة وارتفاع للأسعار وفرض للضرائب، فضلا عن تضييعها للوقت، وما يرافقها من شتائم ومشاحنات وضغائن بين الأصدقاء، وفتح الباب للقمار.

إلا أن الحديث عن تحريم اللعبة من الأساس لم يحظ بالمتابعة المستحقة، رغم ما هو ثابت بتحريمها في فتوى رسمية، باسم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة.

ففي فتوى اللجنة الدائمة رقم 4338 وتاريخ 21/1/1402هـ، الجزم بتحريم لعبة البلوت، ولو كانت بدون عوض (القمار)، لأنها تشغل عن ذكر الله، وتضيع الوقت بلا فائدة، وتفضي إلى الشحناء والبغضاء، وكان رئيس اللجنة في ذلك الوقت هو الشيخ عبدالعزيز بن باز.

فهل التفتت السلطات المختصة عن فتاوى التحريم لمجرد أن البلوت هي لعبة الملك المفضلة، حيث ظهر في المقطع المصور وهو يلعبها؟ أم أن الأمر ليس مستغربًا، ويأتي ضمن سلسلة من الأمور المشابهة منذ وصول الأمير محمد بن سلمان لمنصب ولي العهد وسيطرته عمليًّا على عرش البلاد؟.

قبل يومين فقط ربما كانت الإجابة الشافية، حيث شهدت مواقع التواصل الاجتماعي جدلا واسعا، بالتزامن مع “عيد الحب”، بعد فتاوى تصدرها مسؤولان دينيَّان سابقان اعتبرا أن “يوم الحب” هو “مناسبة اجتماعية لا علاقة لها بالدين، ولذلك يجوز الاحتفال بها دون وجود أي مانع شرعي لذلك”.

لكن كان لافتا تعارض تلك الفتاوى مع فتاوى رسمية سابقة، أصدرها المفتي الحالي ورئيس لجنة البحوث والإفتاء عبدالعزيز آل الشيخ، وغيره من كبار المشايخ على مدار العقود السابقة.

ففي الفتوى المنسوبة لـ”آل الشيخ” والمنشورة على موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، والمقيدة برقم (21203) حُرم فيها الاحتفال بعيد الحب، ووصف بأنه “عيد وثني نصراني”، كما حرمت المشاركة بأي شكل في الاحتفال بالعيد؛ “من أكل أو أشرب أو بيع أو شراء أو صناعة أو هدية أو مراسلة أو إعلان أو غير ذلك”، معتبرة أن “ذلك كله من التعاون على الإثم والعدوان ومعصية الله والرسول”.

توجهات السعودية الجديدة

ولعل البحث عن الدوافع والأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا الإعلان الرسمي المستغرب، يصطدم بمجموعة من الحقائق والدلالات التي يمكن أن تفسر الأمر إلى حد كبير.

التصريح بلعبة سبق تحريمها، وتخصيص مبالغ ضخمة كجوائز لها، ينسجم مع تراجعات كثيرة تحول فيها الأمر المحرم إلى التحليل، بفضل فتاوى أُعدت خصيصا لتوافق هوى الحاكم، ومن أبرز الشواهد، ما أثير بشأن قيادة المرأة للسيارة.

كما أن التوجه الرسمي بشأن “البلوت”، يأتي متسقا مع سلسلة من القرارات والتوجهات الرسمية التي وصفت بأنها تغريبية ومخالفة لما استقر في وجدان السعوديين عبر عقود، وتصدم مجتمعهم المحافظ، وليس أدل على ذلك من قرار التصريح بفتح دور للسينما، والسماح للمرأة بحضور المباريات.

ووفق اتهامات السعوديين أنفسِهم، فإن تخصيص بطولة للعبة شعبية يمارسها الشباب لمجرد التسلية، يعبر عن حالة من السفه باتت مسيطرة على المسؤولين، وضربوا على ذلك أمثلة بما قيل عن شراء ولي العهد ليخت ضخم، ولوحة شهيرة للمسيح، وقصر أسطوري بفرنسا، بقيمة تجاوزت المليار دولار.

ويبدو أن الجدل الدائر حول البطولة المستحدثة يمكن أن يكون هدفًا بحد ذاته، تطبيقًا لسياسة الإلهاء التي تتبعها نظم الحكم الشمولية؛ بهدف صرف أنظار الشعوب عن أزمات المجتمع الحقيقية، وخلق مادة دسمة للحوار والمجادلة تستغرق أوقاته.