لا تنظر أوروبا وأطراف دولية إلى الأزمة الخليجية القطرية الناشبة حاليا أكثر من كونها نزوات أطفال، أو بالمعنى العامي الدارج “لعب عيال”، لكن أطرافا إقليمية وخيليجة تتعامل مع الأمر من منظور وجودي، وكأن من سيتنازل أولا سيخسر كل شئ.
وجهة النظر الأخيرة بها جزء من الصحة معتبر، إذا قيست بمنظور المجتمعات الخليجية، حكاما ومحكومين…
فلك طرف حساباته، ولكل طرف محايره، ولكل طرف مرجعيات يمكن ان تمثل بالنسبة له مقياسا مهما لموقفه..
أطراف الحصار
فولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والذي يمتلك أكبر حصة من قوة الأزمة وعنفوانها، يرى خطرا محدقا على مصيره السياسي وطموحه المشتعل ليكون أول حاكم شاب للمملكة يشار إليه تاريخيا على أنه “المجدد المستنير”، ويعلم جيدا أن التقهقر أمام قطر، التي لا يزال موقفها في اللعبة أفضل، يعني وقوع رقبته تحت مقصلة يتزايد الممسكون بمقبضها يوما بعد يوم، وقد بدأوا في التوافد على ذلك المقبض منذ لحظة ترنح “عاصفة الحزم” التي أطلقها نجل سلمان بـ “عنجهية” كبيرة، ولم تحقق حتى الآن نتائجها المرجوة.
يبدو محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، أحسن حالا، رغم أن الكثيرون يرون أنه السبب الأبرز في دفع بن سلمان لهذا المأزق الذي بات عالميا، لكنه في النهاية أيضا مطالب بأن يجد مخرجا للأمر كما خلقه وتسبب فيه…
ويجزم مراقبون أن الضغوط عليه في هذا الاتجاه تتوالي من الشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي، الذي يرى أن إمارته ستتأثر سلبا بشكل كبير من حصار قطر وتداعياته الاقتصادية عالميا، بالنظر إلى تشابك مصالح الدوحة مع مستثمرين أجانب، علاوة على أن نظريات الحصار الاقتصادي لم تعد تناسب دولة تتزعم الانفتاح الاقتصادي في المنطقة، مثل الإمارات ورئتها المنتعشة دبي.
الأمير تميم بن حمد، يعلم جيدا أن رصيده لا يزال كبيرا في الدوحة، لكن هناك نزيفا قد بدأ في جسده المعنوي، ورغم أنه لا يزال ضعيفا، فإنه على المدى الطويل قد يكون مميتا، لا سيما أن السعودية والإمارات تحاول توسيع الجراح القطرية بكل قوتها لتسرع من عملية النزيف، وصولا إلى غايتهم بحتف سريع لتميم.
خيارات التراجع
من ناحية أخرى، تبدو الخيارات أمام “تميم” للتراجع أكثر أريحية، حيث إنه غير محاصر بالضغوط المكبلة لبن سلمان أو بن زايد نظريا، لكنه عمليا سيفقد الجزء الأكبر من عنفوانه السياسي الذي اكتسبه بسبب الأزمة، لا سيما أنه يرى أن الدوحة لم تخطئ، وأن الرعونة والتسرع اللذين حكما تحرك “دول الحصار” منحاه نقاطا أكثر عنهم.
“تميم” يعلم أن جزءا لا بأس به من القطريين يرون فيه الآن كاريزما مختلفة، وشخص قادر على المواجهة، وهو إحساس مهم، قياسا إلى المساحة الجغرافية شديدة الصغر لقطر، والتي كانت – على الدوام – متكئا لمحاولات التقليل من شأن الدوحة، وأحد منطلقات الهجوم الأخير عليها بأريحية.
علاوة على هذا، لا يبدو “تميم” وحيدا أمام الرياض وأبو ظبي، فمعه والده الشيخ حمد، وهو أحد أكثر الدهاة السياسيين في منطقة الخليج بالكامل، وفقا لتقدير محللين، وإليه يعزو كثيرون تكوين شخصية قطر الإقليمية التي جعلت منها قوة مهمة في المنطقة، علاوة على شخصيتها الاقتصادية العالمية المعتبرة.
أفق مشوش
من واقع هذه المواقف، لا تبدو هناك نهاية حقيقية في الأفق للأزمة، بل إن الأمور مرشحة للتصاعد بشكل مضطرد وسريع، كما تدحرجت كرة الأزمة بشكل سريع أيضا.
التبرم بدأ يظهر بشكل أكثر وضوحا على الكويت وسلطنة عمان، فهي وإن كانت لا تريد الانخراط في الأزمة لصالح أحد الطرفين، حتى الآن، إلا أن الاستياء من موقف دول الحصار هو الأبرز في ردود الفعل الكويتية المرصودة خلال الفترة الماضية.
وتشير توقعات إلى أن هناك جديدا قد يحدث في الموقف الكويتي، في حالة مرور مؤتمر مجلس دول التعاون الخليجي المقرر في ديمسبر المقبل بدون تحقيق أية حلحلة في الأزمة، حيث ستعتبر الكويت أن السعودية والإمارات لا تولي أية أهمية أو اعتبار لوساطة أميرها، ومكانته الخليجية الكبيرة، علاوة على إيمان الكويت، منذ بداية الأزمة، بعدم وجاهة أسباب التصعيد بهذا الشكل ضد قطر، وممارسة الدوحة دبلوماسية جيدة إزاء الوساطة الكويتية منذ البداية، بعكس دول الحصار التي تعاملت بصلف مع تحركات أمير الكويت.
ما الحل؟
بعد استعراض خريطة التفاعلات الجديدة للأزمة، بات البحث عن حل أمرا مهما، لمحاولة فهم أطر المستقبل التي ستحكم الإقليم الخليجي.
يبدو الحل الأول والأبرز في يد القوى الدولية البارزة، وبشكل أكثر وضوحا، يحتاج الآن محمد بن سلمان ومحمد بن زايد ضمانات أمريكية وأوروبية لحمايتهم داخليا، في حال تراجعوا عن مواقفهم، حيث سيمثل هذا التراجع ضربة كبيرة لكبريائهم أمام الرأي العام.
ووفقا لهذا التصور فإن أوروبا والولايات المتحدة ستجد نفسها عنصرا أساسيا في ترتيب البيت الداخلي لكل من السعودية والإمارات، بعد انتهاء الأزمة الخليجية لصالح قطر في النهاية…
أما مصر فإن السيسي لديه أزمات أكبر من تبعات التراجع عن التصعيد ضد الدوحة، علاوة على أنه قد يستمر في العزف منفردا في هذا الاتجاه، وبدون اعتراض سعودي وإماراتي هذه المرة.
من ناحية أخرى، قد تلعب تلك القوى دورا آخر في محاولة حفظ الكبرياء السعودي والإماراتي، بدفع قطر لتقديم تنازلات لا تمس سقف السيادة في الدوحة، لكن سيتم توظيفها جيدا في وسائل الإعلام السعودية والإماراتية والمصرية على أنها نصر لدول الحصار، ولكن بحدود أيضا، دون تجريح هذه المرة في قطر أو حاكمها، بل وتبني أجندة معدة مسبقا لإعادة التقارب واللحمة.
تعلم السعودية والإمارات جيدا أن استمرار الأزمة بهذا المنوال دون حلحلة ستكون خسائرها أكثر من مكاسبها، وأعظم الرابحين هم إيران وتركيا ودوائر المنتفعين في الإعلام الإقليمي، لهذا فإن التعامل مع خسائر الحلحلة أسهل كثيرا من مجرد التفكير في خسائر التصعيد.
اضف تعليقا