في وقت متأخر، ليلة الأحد، فاجأ البيت الأبيض العالم بإعلانه في بيان رسمي أن تركيا ستتحرك قريبا بعملية عسكرية مرتقبة تخطط لها منذ فترة طويلة في شمالي سوريا، مؤكدا أن القوات الأمريكية لن تدعم هذه العملية، ولن تشارك فيها.

وجاء بيان البيت الأبيض عقب اتصال هاتفي جرى بين الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” ونظيره الأمريكي “دونالد ترامب” مساء الأحد، بحثا خلاله “المنطقة الآمنة” التي من المخطط إقامتها شرق الفرات بسوريا.

وبعد ساعات قليلة من الاتصال الهاتفي، أعلن الرئيس التركي، خلال مؤتمر صحفي يوم الإثنين عن بدء عملية انسحاب القوات الأمريكية، من مناطق شرق الفرات في سوريا.

وقال “أردوغان” إن “عملية انسحاب القوات الأمريكية شمالي سوريا بدأت” معبرا في الوقت ذاته عن إشادته بقرار “ترامب” بالانسحاب على الرغم من أنه وصفه بالمتأخر.

منطقة آمنة

وتلوح تركيا منذ فترة طويلة بتنفيذ عملية تستهدف وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها منظمة إرهابية على صلة بمسلحين أكراد على أراضيها.

وطوال الفترة الماضية ساعدت الولايات المتحدة الوحدات على هزيمة متشددي تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا.

وفي أغسطس/آب 2019، اتفقت الولايات المتحدة مع تركيا على أن تقيما معا منطقة آمنة بشمال شرقي سوريا على الحدود مع تركيا، لكن الأخيرة ظلت تتهم واشنطن بالتحرك ببطء شديد فيما يتعلق بإقامة المنطقة الآمنة.

اتهامات كردية ودفاع “ترامب”

خطوة واشنطن بسحب بعض قواتها من شمال شرقي سوريا، اعتبرت على نحو واسع أنها بمثابة تحول كبير في السياسة الخارجية الأمريكية، كما أنها تمهد الطريق أمام هجوم تركي على قوات حليفة لواشنطن يقودها الأكراد.

من جانبها قالت قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد إن خطوة الانسحاب تمثل “طعنا بالظهر” لها. حيث إن قواتها هي الشريك الأقوى لواشنطن في قتال التنظيم المتشدد في سوريا.

واتهمت القوات الكردية الولايات المتحدة بالتخلي عنها محذرة من أن الهجوم التركي سيكون له “أثر سلبي كبير” على الحرب على تنظيم “الدولة الإسلامية”.

في المقابل دافع “ترامب” عن قراره في عدد من التغريدات على “تويتر”، قائلا، إن مواصلة دعم القوات التي يقودها الأكراد مكلفة للغاية، مضيفا: “آن الأوان لخروجنا من تلك الحروب السخيفة التي لا نهاية لها”.

وأضاف: “الأكراد قاتلوا معنا، لكنهم حصلوا على مبالغ طائلة وعتاد هائل لفعل ذلك. إنهم يقاتلون تركيا منذ عقود”.

وقال: “سيتعين الآن على تركيا وأوروبا وسوريا وإيران والعراق وروسيا والأكراد تسوية الوضع”.

وعلى نفس منوال التحذيرات الكردية، اعتبرت وزيرة الدفاع الفرنسية “فلورنس بارلي”، يوم الإثنين، انسحاب أمريكا وهجوم تركيا في سوريا قد يقويان “الدولة الإسلامية”.

وقالت: “يجب أن نكون منتبهين للغاية لأن مثل هذا التحرك الذي يتعارض مع أهداف التحالف (المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية) يمكن أن يقوي التنظيم بدلا من أن يضعفه أو يقضي عليه”.

هجوم عاصف

داخل الولايات المتحدة تعرض قرار الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لانتقادات شديدة ليس فقط من قبل معارضيه الديمقراطيين الذين يسعون لعزله، بل أيضا من حلفائه الجمهوريين.

وطالب السيناتور الجمهوري، “ليندسي جراهام”، الرئيس الأمريكي، “ترامب” بالعدول عن قراره بسحب القوات الأمريكية من شمال سوريا، معتبرا أن هذا الخيار “ينطوي على كارثة”.

وقال “جراهام” في تغريدة على “تويتر”: “إذا طبقت هذه الخطة التي تمهد الطريق أمام هجوم عسكري تركي ضد الأكراد فسأقدم مشروع قرار إلى مجلس الشيوخ يطلب أن نعود عن هذا القرار، أتوقع أن يلقى دعما واسعا من قبل الحزبين”.

وأعرب “جراهام” عن أمله بفرض عقوبات على تركيا “إذا لزم الأمر” في حال مهاجمتها للأكراد.

وحذر “جراهام” من أن قرار “ترامب” “يضمن عودة تنظيم “الدولة، كما أن التخلي عن الأكراد سيكون وصمة على شرف أمريكا”. 

وفي السياق ذاته انتقدا زعيما مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين، يوم الإثنين، قرار “ترامب”، وعبرا عن خشيتهما أن تفتح الخطوة الباب أمام ضربة تركية للمقاتلين الذين يقودهم الأكراد في المنطقة.

وقالت رئيسة مجلس النواب “نانسي بيلوسي”، وهي ديمقراطية، في بيان: “هذا القرار يشكل تهديدا خطيرا للأمن والاستقرار الإقليميين، ويبعث برسالة خطيرة لإيران وروسيا وكذلك لحلفائنا مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد شريكا مؤتمنا”.

ودعت “ترامب” في البيان إلى “العدول عن هذا القرار الخطير”.

أما زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ “ميتش مكونيل” فقال في بيان: “الانسحاب المتسرع للقوات الأمريكية من سوريا لن يصب إلا في مصلحة روسيا وإيران ونظام الأسد وسيزيد من خطر نهوض الدولة الإسلامية وغيرها من الجماعات المتشددة مرة أخرى”.

تهديد وتفاهم ومخاوف

وإزاء هذا الهجوم العاصف حاول الرئيس الأمريكي تهدئة الأجواء بتصريح سريع توعد فيه  تركيا بتدمير اقتصادها تماما إذا أقدمت على أي فعل يعتبره “مجاوزا الحدود”.

وقال على “تويتر”: “أؤكد مجددا فحسب على ما شددت عليه من قبل، أنه إذا فعلت تركيا أي شيء اعتبره بحكمتي العظيمة التي لا تضاهى مجاوزا الحدود فسأدمر تماما الاقتصاد التركي وأمحوه (لقد فعلت ذلك من قبل)”.

ويرى مراقبون أن تصريحات “أردوغان” و”ترامب” خلال الساعات القليلة الماضية، تعكس أن ثمة تفاهم بين أنقرة وواشنطن، على دخول محدود للقوات التركية وليس سيطرة كاملة على كل مناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد في شمال سوريا.

وتكمن المخاوف من خطوة الانسحاب الأمريكي وفقا لمراقبين غربيين من أنها سوف تفتح جبهات جديدة للصراع، وستسبب في تشريد مئات الآلاف من المدنيين في منطقة تعاني بالفعل من أزمة إنسانية، كما تنذر بوقوع المزيد من الأراضي تحت سيطرة الرئيس السوري.

ووفقا لمنتقدين لخطوة الانسحاب الأمريكي فمن المرجح أن يؤدي التوغل التركي إلى اندلاع قتال بين القوات التركية والقوات الكردية السورية الذين تعهدوا بالدفع عن شمال شرق سوريا بأي ثمن.

وهذا من شأنه أن يسحب وحدات حماية الشعب الكردي بعيدا عن الحملة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” وسط تجدد مستمر للقتال من قبل عناصر التنظيم.

ووفقا لمراقبين، فربما تدفع خطوة الانسحاب الأمريكي الأكراد الذين يشعرون بالخيانة من “ترامب” إلى اللجوء إلى نظام “الأسد” والروس للحماية من تركيا، وهي نتيجة سعت الولايات المتحدة لتجنبها.

وستكون النتيجة النهائية لذلك وفقا لمعارضين للانسحاب، هو إعادة أجزاء كبيرة من شمال شرق سوريا، إلى سيطرة النظام السوري دون أن تضطر دمشق إلى إطلاق رصاصة واحدة.

أسرى تنظيم “الدولة الإسلامية”

وفيما يتعلق بأسرى تنظيم “الدولة الإسلامية” في مناطق الأكراد، أوضح بيان البيت الأبيض عن الانسحاب، الأحد، أن واشنطن “تمارس ضغوطا على فرنسا وألمانيا وباقي دول الاتحاد الأوروبي، لاستعادة مواطنيها المنتسبين إلى داعش والمعتقلين في شمال سوريا”.

وتابع: “هذه الدول ترفض استعادة هؤلاء الإرهابيين، والولايات المتحدة لن تعتقلهم إلى الأبد”.

وأشار البيان إلى أن “تركيا ستكون مسؤولة بعد الآن عن إرهابيي داعش الذين اعتقلتهم الولايات المتحدة في المنطقة خلال العامين الأخيرين”.

بدوره علق “أردوغان” على تصريحات البيت الأبيض بمسؤولية تركيا بعد الآن عن مصير عناصر تنظيم “الدولة” في السجون، والادعاءات التي تقول بأنّ أعدادهم تصل لـ10 آلاف.

وقال “أردوغان”: “هذه الأرقام مبالغ فيها، كما تعلمون ثمة عناصر من بلدان مختلفة مثل ألمانيا وفرنسا في السجون، تقول البلدان المذكورة إنها تريد التخلي عن المسؤولية تجاههم”.

وشدد على أنهم يدرسون ماهية الخطوات اللازمة لضمان عدم فرار عناصر تنظيم “الدولة” من السجون في منطقة شرق الفرات.