العدسة – جلال إدريس
لم يكن الحصار المفروض على دولة قطر من قبل دول الحصار العربي (السعودية والإمارات ومصر والبحرين) مجرد حصار سياسي أو دبلوماسي، لكنه كان بالأساس حصارًا اقتصاديًّا سعت من خلاله دول الحصار لإخضاع “قطر” لمطالبها الخاصة، وفرض إجراءات وسياسات بعينها على دولة قطر.
وخلال عام من “الحصار” أظهر اقتصاد دولة قطر ثباتًا وقوة مكنته من مواجهة آثار الحصار، حيث نجحت التدابير المتخذة من قبل “الدوحة” في الحد من تداعيات الحصار، بل حولته إلى عامل تحدٍّ نتج عن مواجهته توسع وتطوير قطاعات مختلفة، وذلك في ضوء توقعات بأن يواصل اقتصاد الدولة أداءه المتميز، وأن ينمو بوتيرة هي الأسرع على مستوى المنطقة، مدفوعًا بانتعاش قطاع الطاقة والمبادرات القائمة التي تم تسريع إنجاز الأعمال فيها.
لم يكن هذا كل شيء، لكن تقارير اقتصادية مختلفة أكدت أن الدوحة هي الأقل تأثرًا بإجراءات مقاطعة دول الحصار، بينما تعتبر تلك الدول هي المتضرر الأكبر في ضوء الخسائر التي لحقت باقتصادياتها والتي المتوقع أن تتزايد في ظل التحديات القائمة، وفي مقدمتها تراجع أسعار النفط، وأكد خبراء واقتصاديون مخاوفهم من أن استمرار الأزمة الدبلوماسية الخليجية لمدى أطول، يدفع إلى ظهور آثار سلبية تتحملها اقتصاديات المنطقة.
فكيف نجحت قطر في التصدي للحصار الاقتصادي الذي فرض عليها؟ وما هي أشكال الحصار؟ ولماذا أصبحت دول الحصار هي المتضرر الأكبر منه؟
تأثر وقتي في بداية الحصار
وفقًا لمراقبين، فإن الاقتصاد القطري تأُثر خلال الأيام الأولى للمقاطعة بلا شك، خصوصًا وأن المقاطعة شملت إغلاق دول الحصار مجالها الجوي أمام الطيران القطري والحدود البحرية والجوية، كما شملت وقف توريد واستيراد كل المنتجات من وإلى قطر من دول الحصار.
تلك الخطوات أحدثت هزة في السوق القطري في بداية الأمر، وتأثرت قطاعات عدة في قطر، منها قطاع النقل والاتصالات والمقاولات، فضلًا عن غياب منتجات غذائية خليجية كانت تعتمد عليها قطر بشكل أساسي في أسواقها، لكن سرعان ما اتخذت الدوحة العديد من الإجراءات التى ساهمت في الحفاظ على الوضع الطبيعي للأسواق، وعملت على إيجاد بدائل عن دول الحصار، وتشجيعًا للاكتفاء الذاتي للبلاد.
خلق أسوق بديلة
لم تقف قطر مصدومة أمام الحصار، لكنها فكرت سريعًا في خلق أسواق بديلة عن السوق الخليجي، لسد العجز الناتج عن الحصار، فتوسعت في اتفاقيات اقتصادية مع الكثير من دول العالم التي كانت رافضة للحصار الخليجي عليها.
وسريعًا نجحت إستراتيجية قطر الوطنية للأمن الغذائي، في تجاوز التهديدات والتحديات والآثار السلبية للحصار، الذي فرضته دول الحصار، حيث شهدت أسواق الدوحة وفرة في المعروض من الأغذية والأدوية والمواد الأولية، من أسواق بديلة عن الأسواق الخليجية.
وتوسعت قطر في عمل اتفاقيات كبرى مع دول كـ”تركيا وعمان ودول أوربية” لتوفير كافة احتياجات السوق القطري والعمل على تأمين احتياجاتها من السلع الغذائية والاستهلاكية، وذلك عن طريق الاستفادة من المنافذ المائية، وفي مقدمتها ميناء حمد الدولي، الذي استغلته في التبادل التجاري مع مختلف دول العالم.
وظهرت المنتجات التركية بكثرة في الأسواق، بعد استقبال الدوحة نحو 144 طائرة تحمل مواد غذائية منذ بداية الحصار في الخامس من يونيو الماضي، أي بعد ساعات قليلة من فرض الحصار عليها.
تبني مشاريع وطنية
لم تعتمد قطر على السوق البديلة والمنتجات القادمة إليها من الدول الصديقة فحسب، لكنها تبنت في العام المنصرم مشاريع رئيسية أسهمت في تعزيز اقتصاد البلاد، كان من أبرزها افتتاح ميناء حمد، أحد أكبر موانئ المنطقة، وقرار خفض قيمة الإيجار بنسبة 50% لجميع المستثمرين خلال العامين 2018- 2019 في المناطق اللوجستية في الأجزاء الجنوبية من دولة قطر، وفتح شبكة من الطرق السريعة، ومراكز الخدمات اللوجستية والمناطق الاقتصادية الخاصة، وإقامة مشاريع موجهة نحو دعم الابتكار ورواد الأعمال من الشباب، فضلًا عن توسيع الشراكات الاقتصادية مع دول عدة في المنطقة والعالم.
وأثمرت تلك المشاريع والمبادرات والتوجهات التي تضافرت فيها جهود القطاع العام والخاص، نتائج ترجمتها الأرقام والإحصائيات التي صدرت عن الجهات الرسمية أو الرقابية الدولية في هذا المجال، فحقق الناتج المحلي الإجمالي للدولة نموًّا بنسبة 1.9% خلال الربع الثالث من العام 2017، إذ بلغت تقديرات الناتج المحلي الإجمالي للدولة بالأسعار الثابتة (الحقيقي) حوالي 208.92 مليار ريال مقارنة بتقديرات الفترة ذاتها من العام 2016، البالغة 205.05 مليار ريال، كما سجل اقتصاد قطر واحدًا من أسرع معدلات النمو في المنطقة عندما زاد إجمالي الناتج المحلي بين يوليو وسبتمبر الماضيين نحو 2% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، ونمت معظم القطاعات الاقتصادية بما يقارب 4% باستثناء قطاع الهيدروكربونات الذي نما بنحو 20%.
ولا يزال اقتصاد الدولة الأسرع نموًّا في المنطقة بمعدل نمو 2.5%، في وقت يستمر فيه الإنفاق الحكومي لتطوير مشاريع البنية التحتية، والمنشآت المتعلقة بكأس العالم لكرة القدم 2022، حيث زاد إنتاج قطاع التشييد والإنشاءات بنسبة 15%، وهي مؤشرات على الأداء الاقتصادي القوي لدولة قطر، رغم الحصار المستمر الجائر.
توسعات نفطية
وفقًا لـ”الجزيرة نت” فقد حاولت دول الحصار الإضرار بالاقتصاد القطري وبمقوماته الأساسية، وفي المقدمة قطاع النفط والغاز، غير أنه وبعد مرور سنة من الحصار شهد هذا القطاع زيادة كبرى في الإنتاج وتوسعات بالخارج.
وقال الرئيس التنفيذي لشركة قطر للبترول سعد شريدة الكعبي بداية الشهر الماضي إن الشركة العملاقة ستمضي قدمًا في إستراتيجيتها لزيادة الإنتاج والاستحواذ على أصول أجنبية مثلما تفعل شركات النفط الكبرى، رغم الحصار المفروض على قطر منذ يونيو الماضي.
ومن حيث الإنتاج تسعى قطر لزيادة طاقتها الإنتاجية للغاز إلى 100 مليون طن سنويًّا من المستوى الحالي البالغ 77 مليونا لتعزيز مركزها كأكبر مصدر للغاز في العالم.
وقبل أسابيع قالت شركة قطر للبترول إنها وجّهت دعوة إلى مجموعة من الشركات العالمية لتقديم عروضها للمشاركة في تطوير وتشغيل مجمع عالمي جديد للبتروكيماويات في مدينة “راس لفان” الصناعية شمالي البلاد.
أما خارجيًّا فقد فازت “قطر للبترول” منذ أشهر بعقود للاستكشاف البحري ومشاركة الإنتاج في خمس مناطق بالمكسيك، وبحقوق للاستكشاف النفطي في أربع مناطق بالمياه العميقة في البرازيل، بالإضافة إلى حقوق استكشاف في جنوب إفريقيا وبلدان أخرى.
سحب منتجات دول الحصار
وشيئًا فشيئًا استطاعت قطر أن تستغني تمامًا عن منتجات دول الحصار، فأصدرت في 26 من مايو الماضي، قرارًا يلزم جميع منافذ البيع والمجمعات الاستهلاكية العاملة بالدولة، على إزالة ورفع جميع البضائع التي تم استيرادها من دول الحصار (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) من على الأرفف.
كما نوه التعميم بأن مفتشي الوحدات الإدارية التابعة لقطاع شؤون المستهلك بوزارة الاقتصاد والتجارة سيقومون بالمرور على جميع منافذ البيع للتأكد من تنفيذ إزالة ورفع البضائع المذكورة.
ويعد هذا القرار ضربة كبرى لدول الحصار؛ إذ أنه يؤكد أن قطر لم تعد بحاجة لمنتجاتهم من قريب أو بعيد، سواء في فترة الحصار أو بعد فك الحصار والصلح إن حدث ذلك.
وأشاد رجال أعمال وتجار قطريون بهذه الخطوة، مؤكدين أن أسواقهم ليست بحاجة لما تنتجه دول الحصار، بفضل الجهود القطرية في تعزيز المنتجات الوطنية، وفتح قنوات الاستيراد مع دول جديدة من جميع أنحاء العالم، والتي عملت على توفير جميع المتطلبات الاستهلاكية للمواطنين والمقيمين، مؤكدين أن هذا القرار ضربة موجعة لاقتصاديات دول لا تحترم الاتفاقيات والمواثيق المشتركة.
السعودية والإمارات أكبر الخاسرين
وبحسب اقتصاديين، فإن قطع العلاقات الاقتصادية مع قطر، وإغلاق كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية معها، أدى لوقوع نتائج عكسية على دول الحصار، إذ أصبحت قطر هي من تحاصر تلك الدول وتكبدها خسائر فادحة، وذلك بعدما نجحت في استبدال المنتجات السعودية والإماراتية، بمنتجات أخرى، وخلق مسارات بديلة لمواجهة التحديات التي فرضها الحصار.
وكانت السعودية هي مصدر قطر الرئيس من المنتجات الغذائية، إذا بلغت قيمة الصادرات السلعية السعودية إلى قطر، من سلع استهلاكية وغذائية إضافة إلى المواشي، نحو 1.1 مليار دولار عام 2015، وقد أدى الحصار إلى فقد الشركات السعودية حصتها السوقية في قطر بشكل كامل.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن شركة “المراعي” السعودية تعد حد أبرز الخاسرين من حصار قطر، حيث انخفضت أسهمها إلى أدنى مستوى لها منذ ثمانية أشهر، بعد أن أوقفت ضخ منتجاتها لدولة قطر، وعلى الرغم من عدم وضوح حصة قطر من واردات “المراعي”، إلا أن 25% من صناعات الشركة السعودية تتجه نحو دول الخليج (العربي)، بحسب “بلومبيرج”.
أما الإمارات فكانت تحتل المرتبة الأولى بين الشركاء التجاريين مع قطر، حيث صدرت الدوحة إليها نحو مليار دولار في الربع الأول من العام الحالي، ومعظم تلك السلع من الغاز الطبيعي والغاز المسال.
وأكد مراقبون أن غلق أنبوب الغاز القطري لشركة “دولفين” الإماراتية – في حال تصاعد الأزمة الخليجية- سيؤدي إلى وقوع الأخيرة في أزمة نقص لتوريد الغاز إلى الولايات المتحدة والدول الأخرى، خاصة مع ارتفاع الطلب على الغاز اللازم لتوليد الطاقة.
وفي تقرير نشرته مجلة “الإيكونومست” البريطانية، الشهر الماضي، قالت: إن “دبي بدأت تخسر الشركات والأعمال التجارية والاستثمارات القطرية التي كانت تُنعشها”.
وأشار التقرير إلى أن رؤساء شركات في دبي بدؤوا في خفض عدد موظفيهم في أعقاب فقدانهم لعقود قطرية بعد الحصار.
وأكد التقرير أيضًا أن ميناء “جبل علي” كان أكبر المتضررين من فرض الحصار على قطر، خصوصًا أنه كان يقوم بمناولة أكثر من 30% من شحنات النقل البحري في دول مجلس التعاون الخليجي، وأن 85% من هذه الشحنات كانت تشحن إلى قطر، التي حولت شحناتها لموانئ سلطنة عمان.
وشهد سوق العقارات المبيعة في دبي -وهو أحد أعمدة اقتصاد الإمارة- تراجعًا بنسبة 46% في الربع الأول من 2018، في حين تراجع سوق العقارات الجاهزة بنسبة 24%.
ووفقًا لإحصائية صادرة عن الأمانة العامة في مجلس التعاون الخليجي، العام الماضي، فقد بلغ عدد العقارات التي يملكها القطريون في الإمارات 1458 عقارًا، ما يعني أن الأزمة الخليجية مع قطر هي السبب الرئيسي في ضرب الاقتصاد العقاري بالإمارات.
اضف تعليقا