قدمت روسيا الدماء والأموال لمئات السنين وخاضت حروبًا متعددة على أمل ضم المضائق التركية؛ مضيق البوسفور والدردنيل، بشكل مباشر أو لإنشاء نظام تابع في تركيا يقبل بالسيطرة على الممرين المائيين الاستراتيجيين ويسمح للسفن الحربية الروسية بالمرور بشكل دائم.
وكانت سيطرة موسكو على المضيق أمرا حيويا لضمان الوصول الروسي الآمن إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط والانتقال بفعالية من جنوب روسيا من المياه الساحلية بالقرب من سوتشي وتامان وصولاً إلى بحر إيجه.
ومنذ القرن الخامس عشر، قدمت روسيا نفسها كوريث حقيقي للإمبراطورية الرومانية البيزنطية، وفي الواقع، أصبح النسر ذو الرأسين الذي كان شعارا لسلاسلة “باليولوج” آخر سلالة للإمبراطورية البيزنطية، أصبح اليوم شعارا للإمبراطورية الروسية.
وبدا الاستيلاء على إسطنبول (القسطنطينية)، واستعادة الصليب الأرثوذكسي على آيا صوفيا (حولها الأتراك العثمانيون إلى مسجد ثم تحولت الآن إلى متحف)، مع مضيق البسفور، وفي نهاية المطاف توحيد شعوب البلقان والشرق الأوسط الأرثوذكسية تحت الإدارة الروسية، أمرا في متناول اليد عدة مرات في القرنين الماضيين.
لكن في كل مرة، كانت القوات الروسية تسير فيها إلى القسطنطينية أو تخطط لإنزال قوات على البوسفور، كان يحدث خطأ ما.
ومع ذلك، نجحت البحرية الروسية في عام 1833 بالفعل في إنزال نحو 30 ألف جندي على مضيق البوسفور لوقف القوات المتقدمة للحاكم المصري “محمد علي” وإنقاذ السلطان العثماني “محمود الثاني”، وقد انسحبت القوات الروسية فقط بعد أن وقع الأتراك على اتفاقية للدفاع المتبادل (معاهدة “هنكار إسكله سي”)، وتحولت تركيا فعليًا إلى محمية روسية مع شرط سري يتطلب إغلاق الدردنيل بواسطة السفن الروسية أمام جميع السفن الحربية الأجنبية.
ويمكن القول إن ما يوازي معاهدة كهذه حاليا هو الهدف النهائي لسياسة موسكو الشرق أوسطية الحالية، مع وصول أجزاء من “إس-400″، نظام الدفاع الصاروخي الروسي، إلى تركيا، ما أدى إلى تصعيد التوترات في العلاقات بين أنقرة وواشنطن بشكل كبير، حيث ترى موسكو في هذه اللحظة فرصة عظيمة يجب عدم تبديدها.
وبالنسبة إلى الكرملين، يجب ألا يكون شراء “إس-400” حدثًا فرديا، بل يجب أن يكون الأساس الذي تتم على أساسه إعادة “العلاقات التاريخية” التي قوضها في السابق النفوذ الغربي والطموحات المحلية لأنقرة.
وقد ظهرت تقارير أولية أن موسكو وأنقرة كانتا تناقشان شراء صواريخ “إس-400” في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وتم تأكيد العقد رسميًا في سبتمبر/أيلول 2017 حيث اشترت تركيا 4 بطاريات بقيمة 2.5 مليار دولار، ودفعت تركيا دفعة نقدية غير معلنة عند الشراء، وتم تغطية الباقي بقرض قدمته الحكومة الروسية.
وحاولت الولايات المتحدة وغيرها من أعضاء الناتو دون جدوى إقناع حليفتهم تركيا بالتراجع عن شراء ونشر المنظومة الروسية الصنع، والتي يقال إنه لا يمكن دمجها مع الدفاعات الجوية الغربية.
علاوة على ذلك، يمكن أن تثبت هذه التقنية الروسية أنها تشكل خطرا أمنيا على التحالف الغربي من خلال جمع وتمرير معلومات رادار مفصلة حول أحدث مقاتلة أمريكية من طراز “إف-35”.
وتشارك تركيا في صنع مكونات للطائرات وقد تعاقدت للحصول على 116 مقاتلة منها مقابل حوالي 10 مليارات دولار.
ولتجنب الانتهاك الأمني المحتمل الناجم عن المزاوجة بين طائرات “إف-35” الأمريكية ونظام “إس-400” داخل الجيش التركي، عرضت واشنطن بيع أنقرة صواريخ باتريوت الأمريكية المضادة للطائرات وهددت بفرض عقوبات وطردت تركيا من برنامج “إف-35″، لكن الرئيس “رجب طيب أردوغان” رفض بثبات إلغاء الصفقة مع موسكو.
وفي 12 يوليو/تموز، بدأت المكونات الأولية لبطاريات “إس-400” في الوصول إلى قاعدة جوية بالقرب من العاصمة التركية، وتم تسليمها بواسطة طائرات نقل ثقيلة.
وفيما تميل صفقات الأسلحة الروسية إلى أن تكون سرية للغاية، لم يكن الأمر كما هو معتاد في هذه الحالة حيث قام الجانبان بتحويل عملية التسليم إلى مشهد للعلاقات العامة، حيث تم نشر لقطات لطائرات النقل التي يتم تحميلها في روسيا وتفريغها في تركيا.
وتتكون بطارية “إس-400” من عدة شاحنات ثقيلة وناقلات خاصة ورادارات مختلفة ومعدات وصواريخ وقاذفات ولوازم أخرى.
ولكن بالنظر إلى النقص في طائرات الشحن الجاهزة للطيران، فقد تم تنفيذ التسليم الروسي المحمول جواً على مدار عدة أيام، حيث استمر ذلك الجسر الجوي لمدة أسبوع على الأقل، وتم اختيار طريقة النقل الجوي الباهظة الثمن لتسريع عملية التسليم وكذلك لمنع واشنطن من تعطيل الصفقة في اللحظة الأخيرة.
ربما كان التسليم سيكون أسرع بكثير لو تم عن طريق القطار إلى ميناء البحر الأسود ومن ثم عبر سفينة شحن واحدة، لكن يبدو أن موسكو كانت عازمة على استغلال الضجيج الأقصى لبيع المنظومة واستخدامه لتطويق واشنطن وبالتالي ضمان أقصى قدر من الرد والعقوبات وبالتالي تعميق الانقسام بين حلفاء الناتو.
يتطلب إنتاج نظام “إس-400” الكامل عادة حوالي 24 شهرًا من البداية إلى النهاية، ولكن وفقًا لـ”ألكسندر ميكيف”، الرئيس التنفيذي لشركة “روسوبورون” إكسبورت الروسية لتجارة الأسلحة، فقد تم تنفيذ الصفقة التركية في زمن قياس.
وادعى نائب رئيس الوزراء المسؤول عن صناعة الدفاع، “يوري بوريسوف” أن تسليم جميع مكونات المنظومة إلى تركيا سيتم الانتهاء منه في عام 2019، على الرغم من أن تدريب المتخصصين الأتراك قد يستغرق المزيد من الوقت، وتبذل موسكو كل ما في وسعها لضمان استمرار العقد مع “أردوغان” على الرغم من الضغط الأمريكي.
كما عرضت روسيا على تركيا مقاتلات “سوخوي-57” لتحل محل طائرات “إف-35” وهناك آمال كبيرة في موسكو من أن الانقسام داخل الناتو قد ينمو، وأن يقرب روسيا خطوة نحو هدفها النهائي المتمثل في إقامة دولة صديقة على البوسفور.
وفي الوقت الذي عرضت فيه مشاهد تسليم النظام الروسي إلى تركيا، قامت القناة الأولى الروسية بعرض لقطات من حديث القومي الروسي “فلاديمير جيرينوفسكي”، الذي توقع قبل 3 سنوات أن تصبح تركيا حليفًا روسيًا وثيقًا، وأن تغادر الناتو إلى الاتحاد الجمركي الذي تقوده روسيا متسائلة: “منذ 3 سنوات، بدا الأمر كأنه بعيدا، لكن هل هو كذلك الآن؟”.
اضف تعليقا