العدسة – كنان الشامي

قال محرر “الجارديان” للشؤون الدبلوماسية “باتريك وينتر” إن الدبلوماسية المتشددة التي تنتهجها الولايات المتحدة بخصوص إسرائيل، قد تسهم في إبراز تباين المواقف بين واشنطن وكبار الحلفاء الذين سيختارون معارضة قرارها اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل؛ تحسبا لرد فعل الرأي العام في بلادهم .

أما الضحية الأكبر لتغير دبلوماسية واشنطن، فقد تكون منظمة الأمم المتحدة، التي ربما تدفع التكلفة الأغلى للنزاع، لو قررت واشنطن، التي تدفع خمس ميزانيتها، وقف التمويل الذي يتجاوز عشرة مليارات دولار، ناهيك عن الأضرار التي سوف تلحق ببرامج تنموية تنفذها المنظمة الدولية حول العالم.

وأيدت 128 دولة مشروع القرار، مقابل اعتراض 9 دول، وامتناع 35 دولة عن التصويت.

وانضمت سبع دول (جواتيمالا، وهندوراس، وتوجو، وميكرونيزيا، وناورو، وبالاو، وجزر مارشال) لإسرائيل والولايات المتحدة، في التصويت ضد القرار.

وكان من بين الـ 35 دولة التي امتنعت عن التصويت “الأرجنتين، وأستراليا، وكندا، وكرواتيا، والتشيك، والمجر، ولاتفيا، والمكسيك، والفيليبين، ورومانيا، ورواندا”، أما أوكرانيا التي أيدت مشروع القرار في مجلس الأمن، فكانت بين 21 بلدا لم تحضر جلسة التصويت.

إلى نص المقال ..

ستنتهي دبلوماسية الولايات المتحدة الأمريكية المتشددة لصالح إسرائيل، بمعركة مكلفة إذا خفضت واشنطن تمويلها للأمم المتحدة .

وقال دونالد ترامب في خطابه الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر الماضي: “إن الدول القوية ذات السيادة تسمح للبلدان التي تتسم بالتنوع ولديها قيم مختلفة وثقافات مختلفة وأحلام مختلفة، ليس فقط بالتعايش، بل تعمل معها جنبًا إلى جنب، على أساس من الاحترام المتبادل”.

وبعد 3 أشهر حذرت مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة نيكي هايلي، وقالت إن بلادها “ستكتب أسماء” الدول التي ستصوت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد خطوتها بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، في إشارة إلى إجراءات عقابية قد تتخذها واشنطن بحق الدول التي تقدم لها مساعدات، وكان ذلك يعني أن عصر الاحترام المتبادل الذي أعلنه “ترامب” في سبتمبر كان قصير الأجل .

وبعد ساعات قليلة من تهديدات “هايلي”، هدد “ترامب” (الذي يصفه البعض بالكابوي) بقطع المساعدات عن الدول التي ستصوت ضد الموقف الأمريكي بشأن القدس قائلا: ” إنهم يحصلون على مئات الملايين من الدولارات، بل حتى مليارات الدولارات، ثم يصوتون ضدنا، حسنا نحن نراقب تلك الأصوات”.

وأضاف قائلا للصحفيين في البيت الأبيض: “دعهم يصوتون ضدنا، سنوفر الكثير من الأموال، الأمر لا يعنينا”.

إذا كانت القوة الناعمة، في كلمات جوزيف ناي، هي القدرة على الحصول على ماتريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال، فإن “ترامب” النموذج الشارح لدبلوماسية القوة المتشددة والمتنمرة .

ويرجع ذلك جزئيا إلى أنه نتاج للعقلية التي طالما رأت الأمم المتحدة باعتبارها بؤرة مناهضة للولاء للولايات المتحدة الأمريكية، والفساد والتبذير، وهو ما نص عليه كتاب “الأمم المتحدة العارية”، لمراسل “فوكس نيوز”، “أريك شون”.

وعلى حد تعبير “جون بولتون” السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، كانت الأمم المتحدة دائما تمثل بيئة غنية بالاستهداف من قبل الأعداء، خاصة بسبب التحيز المناهض لإسرائيل .

ويمكن القول أيضا إن ترهيب “ترامب” يسلط فقط الضوء على سمة ثابتة للسياسة الأمريكية التي تتبني نهج القوة المتشددة في الأمم، وهذا ما وصفه السفير البريطاني السابق لدى الأمم المتحدة ديفيد هاناي، بأنه مؤشر على الخوف، عند حساب المتغيرات للعواقب التي تأتي حال التصويت ضد قوة كبيرة .

ويأمل كل عضو دائم في مجلس الأمن، بما في ذلك المملكة المتحدة ، أن يكون على  مسافة كبيرة بعيدا عن هذا المؤشر السابق، فاللجوء المتكرر لحق النقض من قبل عضو دائم في مجلس الأمن، كما كان مع روسيا حول سوريا، هو عادة إشارة إلى أن الدبلوماسية في بلد ما غير صحيحة .

ولكن هناك شيء مختلف نوعا ما في قضية معاملة الولايات المتحدة للدول الأعضاء في موضوع القدس .

فخط الهجوم هذه المرة شعبي جدا، والتلويح من جهة واشنطن بأخذ المال مقابل عدم الإيذاء، أمر يمكن أن يجذب جمهورا محليًّا وليس جمهورا خارجيًّا .

وكما حذر الكثير من الدبلوماسيين خلال الـ24 ساعة الماضية، من أن تهديدات “ترامب”،  سيكون لها نتائج عكسية تعمق من عزلة أمريكية حول العالم .

وهو ما حدث بالفعل، فعلى النقيض من تهديدات “ترامب”، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة الخميس، بأغلبية ساحقة لرفض اعتراف “ترامب” من جانب واحد بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما تردد أن كندا تحولت من موقفها لدعم الولايات المتحدة إلى الامتناع عن التصويت؛ احتجاجا على التهديدات الأمريكية .

وحتى قبل التصويت قال سفير بوليفيا لدى الأمم المتحدة، ساشا سيرخيو يورنتي سوليز (ساخرا)، للمندوبة الأمريكية نيكي هايليك: إن الاسم الأول الذي ينبغي أن تكتبه في كتابها الأسود هو بوليفيا، وبالنسبة للعديد من البلدان الأخرى لاسيما في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية سيكون من دواعي الشرف إظهار التحدي للولايات المتحدة الأمريكية، القوة العظمى في العالم .

وكان على البلدان التي تقترب عادة من الولايات المتحدة، مثل مصر وفرنسا والسعودية، أن تتخذ خطوات حذرة، حيث لديهم مصالح خاصة مع الرأي العام، وعندما تم النداء بالأسماء في التصويت لم تساند واشنطن سوى تسعة دول، معظمها لا يتجاوز عدد سكانهم عشرات الآلاف، فيما امتلأت كراسة ملاحظات مندوبة واشنطن بالامم المتحدة بأسماء 128 دولة تجاهلت وتحدت تهديداتها هي ورئيس دولتها .

 

الضحية الكبرى

ولكن هذا الصراع بين الطرفين قد يتحول إلى معركة رمزية مكلفة للأمم المتحدة ككل، والتي لا تزال واشنطن المانح الأكبر لها، حيث ساهمت بأكثر من 10 مليارات دولار، أي خمس ميزانيتها .

وبالإضافة إلى ذلك، ووفقا للأرقام الصادرة عن وكالة المعونة الأمريكية، فإن الولايات المتحدة قدمت في  2016، 13 مليار دولار  في هيئة مساعدات اقتصادية وعسكرية للدول الإفريقية، جنوب الصحراء الكبرى، و 1.6 مليار لدول في شرق آسيا والأوقيانوسيا.

وقدمت واشنطن 13 مليار دولار إلى عدد من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، و6.7 مليار دولار إلى بلدان بجنوب ووسط أسيا، و1.5 مليار لدول بأوروبا وأوراسيا، و2.2 مليار دولار لدول في نصف الكرة الغربي، وفقا لهيئة المعونة الأمريكية .

الخطر يكمن في أن حال خروج “ترامب” عن نطاق السيطرة، فإن ذلك يسبب أضرارا طويلة الأجل للأمم المتحدة، وبرنامج الإصلاح للأمين العام أنطونيو جوتيريس .

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد انسحبت بالفعل من منظمة اليونسكو، وقد أعلن المفوض الأممي الأعلى لحقوق الإنسان، زيد بن رعد الحسين، أنه لن يسعى إلى الترشح لولاية ثانية العام المقبل، وقال: “قررت عدم الترشح لولاية ثانية مدتها أربع سنوات، إذ إن الإقدام على ذلك في الظروف الجيوسياسية الراهنة قد يتطلب الركوع والتوسل، وتقليص استقلالية صوتي، الذي هو صوتكم، ونزاهته” .

والأسوأ من ذلك، هو أن تنمر الولايات المتحدة وترهيبها قد يحجب خطوة المسألة المطروحة فيما يتعلق أن قرار نقل العاصمة الأمريكية للقدس ليس قرارا يتعلق بالعقارات .

بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، يتحدى “ترامب” عملية السلام، ويزعج السعودية، أقرب حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط، ويبعد واشنطن أيضا عن أقرب حلفائها الأوروبيين، الذين دافعوا عن حل الدولتين لمدة 40 عاما .

ولا يمكن لأي قدر من الوعيد والتهديد، أن يخفي الخطأ الأساسي لواشنطن بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو حقيقة أن تصويت يوم الخميس لا يفعل شيئا في واقع الأمر، سوى أنه يضع التوكيد على العزلة التي تفرضها واشنطن على نفسها .