بات شروع إثيوبيا في إنفاذ الملء الثاني لسد النهضة قاب قوسين أو أدنى، لا سيما بعد إرسال أديس أبابا بيانات جديدة تتعلق بعملية الملء إلى كل من مصر والسودان، في إطار محاولة للالتفاف على مطالبهما بالتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم على قواعد ملء السد وتشغيله قبل الملء الثاني.
وكشفت البيانات التي أرسلتها أديس أبابا عن احتمال إنفاذ عملية الملء خلال الشهرين القادمين. وهو ما يؤكد تقارير صحفية سابقة نقلت عن مصادر مصرية كشفها عن أن “التقديرات الفنية على ضوء مستويات الأمطار المسجلة حالياً في هضبة الحبشة تشير إلى احتمالية تبكير موعد الفيضان، وبالتالي إمكانية إنجاز الملء الثاني للسد قبل الموعد المحدد”، وهو ما يعني وضع السودان ومصر أمام الأمر الواقع مجددًا كما فعلت إثيوبيا في الملء الأول العام الماضي.
- تراجع نبرة الحرب..
في مقابل ذلك، يبدو أن هناك تراجعًا في نبرة الحرب والحل العسكري في خطاب المسؤولين المصريين والسودانيين، بعد أن تصاعد هذا الخطاب لأيام معدودة بعد حديث عبد الفتاح السيسي بنبرة أقرب للتهديد.
وحسب تقارير صحفية متعددة، فقد بدأت مصر والسودان فعليًا بالتعامل بشكل فني مع خططهما المائية على أساس أن عملية الملء الثاني ستتم خلال أقل من 90 يومًا، مع تسويق مؤشرات تفيد بأن مصر تحديدًا لن يقع عليها ضرر جسيم إثر عملية الملء المرتقبة، وذلك بسبب توفر كميات مناسبة من المياع خلال الفترة القادمة، سواء في بحيرة ناصر، أو من خلال المياه المرتقب وصولها نهاية الفيضان.
في حين أن الجانب السوداني مشغولٌ آنيًا في بحث خطط تهدف إلى تحسين إمكانات السدود الموجودة لديها، لتمرير كميات المياه المطلوبة بعناية، والحيلولة دون تكرار مشكلة فيضان العام المنصرم.
لكن الأزمة الحقيقية ليست في أن الملء الثاني سيضر ضررًا جسيمًا أو طفيفًا بمصر والسودان أم لا، لكن الإشكال الحقيقي هو أن الملء الثاني سيكون تكريسًا لسياسة الأمر الواقع كما دأبت إثيوبيا على تكرارها طيلة مدة الأزمة، وهو ما يفوت الفرصة على دولتي المصب للوصول إلى اتفاق نهائي ملزم، وهو ما سيسمح لإثيوبيا بالتحكم في مياه النيل مستقبلًا، خصوصًا حال انقضت سنوات الرخاء ووفرة الفيضانات الحالية.
ويبدو أن الرسالة الإعلامية التي يحاول النظام المصري تصديرها مؤخرًا هي محاولة نشر خطاب الطمأنينة والتأكيد على أنه بإمكان مصر مواجهة تداعيات الملء الثاني، ومثال ذلك ما جاء في تصريحات وزير الري والموارد المائية المصري، محمد عبد العاطي، السبت الماضي، عندما شدد على نجاح الاستعدادات المصرية لهذا الإجراء الذي نعته بـ “الصدمة”، ومن هذه الاستعدادات مشروع تبطين الترع وتطوير محطات معالجة المياه وتقليل المساحات المزروعة بالمحاصيل المستهلكة للمياه.
- انقلاب في خطاب الإعلام..
وبالتزامن مع الخطاب الرسمي الهادف إلى طمأنة الرأي العام، حدث ما يمكن وصفه بأنه انقلاب واضح في توجهات الإعلام الموالي للنظام والتابع للأجهزة الاستخباراتية والأمنية.
فبعد نزعة صدامية داعية للحرب واستخدام القوة غزت الإعلام الموالي للنظام عقب تصريحات السيسي، عادت ذات وسائل الإعلام إلى التخويف من استخدام القوة والحل العسكري، وحث المواطنين على الاطمئنان ودعم قرارات الدولة.
وهو ما أكدته كذلك ما كشفته مصادر إعلامية من أن رسائل وصلت كبار الإعلاميين والصحفيين بضرورة التهدئة، وإعطاء الأولوية للخطاب السياسي والدبلوماسي على حساب خطاب الحرب والمواجهة العسكرية، والذي كان قد صدّره السيسي في كلمته خلال تفقد قناة السويس عقب تعويم السفينة “إيفر جيفن”.
تراجع نبرة الحل العسكري أتت عقب توجيهات النظام إثر التلويح الغربي بالعقوبات، في حال استُهدف السد بأي عمل عسكري من قبل مصر.
- أسباب الانقلاب..
وحسب تقارير، فإن التباين في الموقف السوداني الداخلي ووجود تيارين داخل نظام الحكم بشأن التعامل مع أزمة السد، علاوة على أن السودان قدمت ملاحظات بشأن تصعيد خطاب الحرب من قبل مصر، كل ذلك أدى إلى تراجع خطاب الحل العسكري من قبل الأجهزة المصرية وأذرعها.
وحسب مصادر صحفية، فإن انقسامًا كبيرًا داخل مجلس السيادة السوداني والحكومة من أي حل خشن، بسبب خشية المكون المدني من عودة السودان إلى قوائم العقوبات الدولية من جديد، إذا ما أقدمت على حل عسكري، أو حتى قدمت الدعم لمصر إذا دخلت إلى الحرب.
وبالتالي، فإن الرأي السائد حاليًا بين الأجهزة المصرية والسودانية هو اللجوء لمجلس الأمن، بالرغم من أن ذلك الحل قد يحمل ضياعًا أكثر للوقت، مع التعويل على بعض الوساطات.
الانقلاب الواضح الذي طرأ على توجهات الإعلام المصري عقب ساعات من حديث السيسي عن التكلفة العالية التي تترتب على أي مواجهة عسكرية، كما طالب بتذكر ما حدث بعد مشاركة الجيش في حرب اليمن والنكسة في ستينيات القرن الماضي، وشدد آنذاك على أن “الاتفاق والتفاهم أفضل بكثير من أي بدائل أخرى”.
وأتى حديث السيسي وانقلاب توجهات الإعلام بهدف تحجيم الآمال والتطلعات الشعبية في الحل العسكري، لا سيما بعد ما ذكرنا عاليه من أن السياقات والظروف الدولية ليست مواتية لأعمال عسكرية.
فالسبب الرئيس لانقلاب التوجهات هو رد الفعل السلبي -أو على الأقل غير الإيجابي- تجاه التهديدات المصرية، من القوى الدولية الكبرى، وذكرت عدد من المصادر أن الخارجية المصرية أُبلغت برسائل مختلفة تعبر عن القلق واستنكار هذا النهج، وتؤكد أن عواقب الحل العسكري ستكون وخيمة على الجميع، فضلًا عن أن ذلك سيعد خروجًا عن المشروعية الدولية.
بشكل عام، تعددت الأسباب التي أدت إلى تراجع السيسي عن عنجهيته الفارغة التي أطلقها قبل أسابيع، لكن من أهم هذه الأسباب أن الأجهزة المصرية لا ترى ذلك حلًّا وقد تكون أضراره أكبر من منافعه، بيد أن الأهم هنا هو أن السيسي يتحرك دائمًا من تلقاء نفسه دون استشارة أحد، فقد خرج مزهوًا في القناة يلوح بالحل العسكري، ثم انتكس وتراجع مرة أخرى بعد ضغط الأجهزة.
وكما حدث في هذا الموقف، فقد حدث كثيرًا من المرات بسبب استبداد السيسي وزبانيته بالحكم، ومن أهم هذه المواقف توقيع السيسي منفردًا على اتفاقية المبادئ عام 2015 دون أن يسمع لتحذيرات أجهزة الدولة، مما أضر كثيرًا بالموقف المصري حتى الآن
إقرأ أيضًا: بعد تعثر إجراءات التفاوض.. ماذا تبقى لمصر في مواجهة التعنت الأثيوبي؟
اضف تعليقا