في خطوة تُعتبر تاريخية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان ومكافحة القمع العابر للحدود، حصل الناشط السعودي البارز يحيى عسيري على الضوء الأخضر من المحكمة العليا البريطانية لتقديم دعوى قضائية ضد الحكومة السعودية.

هذه الدعوى تأتي على خلفية استخدام السلطات السعودية لبرامج التجسس، مثل “بيغاسوس” و”كوادريم”، لاستهداف عسيري وملاحقته إلكترونيًا، وهي قضية تفتح الباب للنقاش حول انتهاكات حقوق الإنسان واستخدام التكنولوجيا كسلاح قمعي.

“بيغاسوس”، البرنامج المعروف بقدرته الفائقة على اختراق الهواتف المحمولة، هو أداة طورتها شركة “NSO” الإسرائيلية. هذا البرنامج استخدمته حكومات قمعية، بما في ذلك السعودية، للتجسس على ناشطين وصحفيين وسياسيين.

التحقيق الدولي الذي أجراه مشروع “بيغاسوس” في 2021 كشف عن عمق الاختراقات التي طالت آلاف الأفراد حول العالم، بما في ذلك قيادات معارضة وصحفيين بارزين.

تحركات يحيى عسيري

عسيري، بصفته مؤسس “القسط” لحقوق الإنسان وعضو مؤسس في حزب “التجمع الوطني” السعودي (ناس)، كان ضمن هؤلاء الذين استهدفتهم السعودية. الهجمات التي تعرض لها عسيري شملت استخدام برامج التجسس “بيغاسوس” و”كوادريم” بين عامي 2018 و2020، أثناء إقامته في المملكة المتحدة. تحليل مستقل أجرته منظمة “سيتيزن لاب” أكد أن أجهزة عسيري تعرضت للاختراق، وأن السلطات السعودية كانت تجمع البيانات من أجهزته بطريقة غير قانونية. هذا الهجوم لم يكن فقط انتهاكًا لخصوصية عسيري، بل عرّض أيضًا الأفراد الذين كانوا يتواصلون معه للخطر.

في مايو 2024، قرر عسيري مواجهة هذه الانتهاكات من خلال رفع دعوى قانونية في المحكمة العليا في إنجلترا وويلز. الدعوى، التي تقودها شركة المحاماة “بيندمانز”، تتضمن عدة اتهامات، أبرزها إساءة استخدام المعلومات الشخصية والمضايقة وانتهاك الخصوصية. بعد دراسة الأدلة، قررت المحكمة العليا في أكتوبر 2024 السماح لعسيري بمواصلة دعواه عبر القنوات الدبلوماسية، مما يعني أن السلطات السعودية ستُستدعى للرد على هذه الاتهامات رسميًا.

هذه الخطوة ليست مجرد إجراء قانوني، بل هي رمز لمواجهة القمع الرقمي الذي تمارسه الدول الاستبدادية على نشطاء حقوق الإنسان. فالسعودية، التي توسعت في قمعها إلى الفضاء الإلكتروني، ستجد نفسها الآن في موقف حرج أمام العالم، مطالبة بتقديم توضيحات حول استخدام التكنولوجيا بشكل غير قانوني ضد مواطنيها في الخارج.

هل عسيري ينجح أمام القمع؟

يحيى عسيري، الذي ترك المملكة العربية السعودية منذ سنوات ليواصل نضاله من الخارج، كان ولا يزال صوتًا قويًا ضد انتهاكات حقوق الإنسان في بلاده. منذ تأسيسه لمنظمة “القسط”، أصبح عسيري هدفًا رئيسيًا للحكومة السعودية التي تحاول إسكات كل من يتحدث ضدها. هذا الاستهداف، الذي وصل إلى حد استخدام برامج تجسس لاختراق حياته الشخصية، يوضح مدى الخوف الذي تملكه السلطات السعودية من الأصوات المعارضة في الخارج.

عسيري يوضح أن الهجمات الإلكترونية لم تقتصر عليه فقط، بل طالت أيضًا أفرادًا كانوا على اتصال به، بمن فيهم ضحايا لانتهاكات حقوق الإنسان وأسرهم داخل السعودية. هذا الأمر يزيد من خطورة الموقف، إذ يظهر أن النظام السعودي لا يتردد في استغلال التكنولوجيا للتضييق على مواطنيه والمقيمين في الخارج على حد سواء.

الموافقة على تقديم هذه الدعوى تمثل لحظة فارقة في مسار محاربة القمع العابر للحدود، فهي لا تتعلق فقط بعسيري كفرد، بل تفتح الباب أمام ملاحقة الدول التي تستخدم التكنولوجيا لانتهاك حقوق الإنسان. هذا التطور قد يخلق سابقة قانونية دولية تسمح بمحاسبة الدول التي تنتهك الخصوصية وتستغل التكنولوجيا للتجسس على النشطاء.

من ناحية أخرى، قد تجد السعودية نفسها في مأزق سياسي ودبلوماسي، خاصة إذا تم إثبات صحة الاتهامات الموجهة إليها. النظام السعودي، الذي يسعى دائمًا إلى تحسين صورته أمام المجتمع الدولي، قد يضطر لمواجهة تداعيات هذه القضية سواء عبر تقديم توضيحات أو حتى التفاوض للإفراج عن معتقلي الرأي، وهو ما أشار إليه عسيري حين قال إنه مستعد لسحب الدعوى إذا ما أطلقت السلطات السعودية سراح المعتقلين السياسيين.

بيغاسوس

برنامج “بيغاسوس” ليس الوحيد الذي استخدمته السلطات السعودية في حملتها ضد النشطاء. “كوادريم”، برنامج تجسس آخر تم تطويره وبيعه للعملاء الحكوميين تحت اسم “Reign”، تم توجيه اتهامات ضده أيضًا باستهداف أجهزة الهاتف المحمول. التحقيق الذي أجرته منظمة “سيتيزن لاب” في 2023 كشف عن أن هذا البرنامج استهدف شخصيات سياسية وصحفيين وأعضاء في منظمات غير حكومية، ما يثير تساؤلات حول مدى استخدام هذه البرامج في عمليات القمع الدولية.

ورغم أن الشركة التي طورت “كوادريم” أغلقت أبوابها وأعلنت تسريح موظفيها، إلا أن الغموض لا يزال يحيط بما إذا كانت هذه التكنولوجيا لا تزال مستخدمة حتى اليوم. عسيري، الذي تعرض لهجمات من هذه البرامج، يعلق على ذلك قائلاً إنه لا يعلم كيف سيتم استخدام المعلومات التي تم جمعها من أجهزته، ما يزيد من حالة القلق لدى النشطاء الذين يواجهون تهديدات مشابهة.

هذه القضية قد تكون نقطة تحول في كيفية تعامل الحكومات مع انتهاكات حقوق الإنسان التي تتم عبر التكنولوجيا. إذا نجحت دعوى عسيري، فإن ذلك سيشكل انتصارًا مهمًا للنشطاء حول العالم الذين يواجهون خطر التجسس الرقمي.

عسيري اختتم حديثه بنبرة تفاؤل قائلاً: “نحن متفائلون بأن العدالة ستسود في النهاية”. قد تكون هذه القضية بداية لتغيير حقيقي في كيفية استخدام التكنولوجيا، من أداة قمع إلى أداة للمساءلة والدفاع عن الحقوق.

ختامًا، يبدو أن عسيري، من خلال مواجهته للنظام السعودي في المحاكم البريطانية، يسلط الضوء على أهمية المساءلة والمحاسبة في عالم يتزايد فيه استخدام التكنولوجيا لأغراض غير مشروعة. إذا تم إثبات الاتهامات ضد السعودية، فقد تكون هذه القضية بداية لموجة جديدة من المساءلة على المستوى الدولي بشأن استخدام برامج التجسس ضد النشطاء.

اقرأ أيضًا : الإمارات تتعمد تعقيد الأزمة السودانية.. ما هي أغراض محمد بن زايد؟