ربما اعتقد كثيرون أن الزيارة الأولى لوزير الخارجية الجزائري الجديد ستكون إلى باريس، على اعتبار ما يربط البلدين من علاقات تاريخية وثقافية وطيدة، وتواجد نحو 3 ملايين جزائري في فرنسا.
لكن “رمضان لعمامرة” طار إلى العاصمة الإيطالية روما كمحطة أولى في جولة خارجية تشمل روسيا والصين وبعض الدول الأوروبية قد تكون فرنسا من بينها، لكن البدء بإيطاليا يؤشر إلى مرحلة جديدة من الصراع بين الدولتين الأوروبيتين حلبته الجزائر.
لا للتدخل الخارجي
وزير الخارجية الجزائري التقى خلال زيارة قصيرة إلى روما، الاثنين، رئيس الوزراء الإيطالي “جوزيبي كونتي”، وكان حريصا على التصيح برفض أي تدخلات خارجية في شؤون بلاده الداخلية.
تصريحات لعمامرة التي تأتي بعد أيام من أقوى موجة احتجاجية على مدار شهر ضد استمرار الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، الجمعة، قال فيها إن مواطني وسلطات بلاده يرفضون أي تدخل في الشؤون الداخلية خلال الأزمة الحالية.
الهدف المعلن من الجولة الخارجية التي تحرك بموجبها لعمامرة إلى موسكو، الثلاثاء، هو توضيح حقيقة ما يجري في الجزائر وطمأنة الدول الشريكة والصديقة على مستقبل التعاون، حيث أضاف في تصريحاته من روما: “نطمئن شركاءنا وندعوهم إلى مواصلة تطوير شراكتنا ذات المصلحة المتبادلة وتبادل المعلومات الدبلوماسية العادية”.
وتابع: “لكن نحذر من أن قوى خفية ومنظمات غير حكومية وأفراد لهم نوايا للتدخل في شؤوننا الداخلية”، مشيرا إلى أنه “في هذه الظروف كل الأمة الجزائرية تقف كرجل واحد ضد هذه التصرفات”.
ورغم دبلوماسية الزيارة إلا أن دلالة البدء بإيطاليا في جولة الوزير الجزائري عميقة، الأمر الذي يؤشر على وجود عزم إيطالي على الدخول بقوة كلاعب قوي في الساحة الجزائرية، مناهضة للدور الفرنسي المعروف.
تصريح بعد صمت
وعلى مدار أسابيع الأزمة الجزائرية، التزمت فرنسا صمتا مطبقا باستثناء تصريحات خجولة وعمومية من بعض المسئولين، حتى دخل الرئيس إيمانويل ماكرون على الخط بتصريح في الـ12 من مارس الجاري.
ماكرون دعا إلى “فترة انتقالية لمدة معقولة” في الجزائر، مشيدا بقرار بوتفليقة عدم الترشح لولاية خامسة، واعتبرها إنجازا لتحقيق الديمقراطية والحرية في الجزائر.
وأعرب ماكرون عن أمله في عقد الندوة الوطنية الجزائرية خلال “الأسابيع والأشهر المقبلة” لكي تفضي إلى “مرحلة انتقالية ضمن مهلة معقولة” للسلطة، وقال: “أعتقد أنها دلالة على النضج وسنفعل ما بوسعنا لمواكبة الجزائر في هذا الانتقال بروحية من الصداقة والاحترام”.
ورغم هذا الصمت، فإن تسريبات أكدت أن الرئيس إيمانويل ماكرون وفريقه الحكومي منشغلون جدا بالملف الجزائري، حيث وُصف انهيار النظام في الجزائر بأنه “الكابوس الذي يقض مضجع ماكرون”.
لفرصة المواتية للتدخل الإيطالي رسمتها احتجاجات الجزائريين المناهضة لفرنسا، حيث تتهم الطبقة الحاكمة بالجزائر أنها دوما تابع لباريس، وكان لافتا بشدة رفع المحتجين شعارات مناهضة لفرنسا التي دام استعمارها لبلدهم 132 عاما.
وسبق لوسائل الإعلام الفرنسية أن أكدت أن ماكرون استدعى السفير بالجزائر “كزافي درينكورت” لمناقشة ما يحدث هناك لأن التخوف كبير من أن تطور الأحداث بشكل سلبي سيؤثر بشكل مباشر على باريس.
ويلخص المتابعون أسباب القلق الفرنسي الكبير من احتمال أن تنحو التطورات منحى سلبيا في ثلاث قضايا أساسية، أولها الخوف من تدفق المهاجرين، وثانيتها ارتفاع مخاطر الإرهاب ضد فرنسا وأوروبا بشكل عام، بالإضافة إلى تأثر المصالح الاقتصادية الفرنسية بشكل مباشر.
بعض وسائل الإعلام الفرنسية كشفت نقلا عن مقربين من الرئيس الفرنسي ظاهرة ملفتة للنظر مفادها أن الموضوع الذي كان دائما يؤرقه وهو يدير شؤون فرنسا من قصر الإليزيه ليس تداعيات حركة السترات الصفراء ولا انعكاسات البريكسيت ولا إمكان اندلاع حرب دولية ضد إيران، بل الكابوس الذي يشغل اهتمامه هو تطورات الأزمة الجزائرية في حال تعثرت جهود فريق الرئيس بوتفليقة في عملية “بيع سلمي” للعهدة الخامسة .
وجاء هذا الغضب الشعبي الجزائري ليعطي لهذه المخاوف بعدا واقعيا قد تكون له انعكاسات على مستوى الأمن والاقتصاد و بإمكانه أن يزعزع رأسا على عقب العلاقات بين ضفتي المتوسط.
هذا الخوف منبعه عدة دراسات صدرت مؤخرا عن بعض مراكز التحليل السياسي والأمني الأوروبي التي تحظى بمصداقية كبيرة تقول استنتاجاتها أنه إذا اندلع صراع على السلطة في الجزائر بمناسبة حيثيات العهدة الخامسة فإن ذاك سيتسبب في وضعية فوضى وعنف ولا استقرار قد تدفع بملايين الجزائريين إلى محاولة عبور المتوسط والوصول إلى الفضاء الأوروبي، ناهيك عن الفاتورة الاقتصادية العملاقة التي قد تتمخض عنها صراعات أجنحة حول السلطة في هذا البلد الذي عاش عشرية سوداء ما تزال ذكرياتها الدامية نابضة في مخيلة الجزائريين.
الجزائر ساحة جديدة
طبقا للمعطيات السابقة فإن الجزائر تبدو ساحة جديدة مهيأة للغريمين الأوروبيين للدخول في صراع جديد على النفوذ، بينما الساحة الليبية لم تستقر بعد وتشهد ضربات متتالية بين الجانبين.
فلم يكن خافيا على أحد الدعم الفرنسي للواء المتقاعد خليفة حفتر من أجل السيطرة على مدينة بنغازي ضد كتائب ميليشيات الإسلاميين المحسوبين على الثورة، بعد معارك استمرت لثلاث سنوات، بمساندة مصرية إماراتية كبيرة.
كانت الدولتان العربيتان الساعيتان إلى محاربة الإسلام السياسي أينما وُجد هما الستار للدعم الفرنسي لحفتر، حتى أعلن الجيش الفرنسي في يونيو 206 مقتل 3 من جنوده غرب مدينة بنغازي.
منذ ذلك الحين والدعم الفرنسي لحفتر واضح ومعلن، في وقت تنال فيه حكومة الوفاق الوطني في طرابلس بزعامة فائز السراج الدعم والاعتراف الدوليين، ودعما إيطاليا كبيرا.
وفي يوليو 2017 دعت باريس إلى اجتماع في مدينة لاسيل سان كلو، جمع بين السراج وحفتر ليبدأ الاهتمام الدولي بحفتر وحصوله على شرعية دولية من لدن فرنسا العضو القوي في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وصاحبة الفيتو في مجلس الأمن.
ورغم أن مخرجات هذا الاتفاق، المتمثلة في وقف الأعمال القتالية وإقرار الحل السلمي للنزاع لم تنفذ إلا أنها مهدت لمؤتمر باريس في مايو الماضي الذي أعلنت من خلاله فرنسا أنها صاحبة اليد الأطول بالبلاد.
على الجانب الآخر أثار مؤتمر باريس غضب روما إلى الحد الذي دفع رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبي كونتي، لإعلان معارضته تنظيم انتخابات بليبيا وفق الجدول الزمني المحدد بمؤتمر باريس.
ولعل أكثر ما تخشاه إيطاليا هو ضرب فرنسا لمصالحها ولسياستها في ليبيا، والقائمة بشكل أساسي على دعم السراج، والحفاظ على موقف دولي موحد بشأن التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة.
لكن إيطاليا تسبق فرنسا بخطوة في العاصمة السياسية الليبية، إذ أن روما فتحت أول سفارة أوروبية في طرابلس، وأمنتها بألف جندي، حسب تقارير إعلامية، مما يجعل حضورها الدبلوماسي والعسكري أقوى في الغرب الليبي.
وفي 2017 وافق مجلس النواب الإيطالي على إرسال السفن الإيطالية الحربية إلى ليبيا في إطار الجهود الرامية للحد من الهجرة غير الشرعية، التي تكون ليبيا بوابتها الرئيسية إلى السواحل الإيطالية، وبينما اخترقت إحدى السفن الإيطالية الحدود البحرية لليبيا حتى هدد الجنرال حفتر بالتعرض لها.
الحرب بالوكالة تلك لم تقتصر على الميدان السياسي والدبلوماسي أو حتى العسكري، بل كان الجانب الاقتصادي في القلب من مفرداتها.
شركة “إيني” الإيطالية التي هي أكبر شركة نفطية تعمل في ليبيا، ويبلغ إنتاجها نحو 600 ألف برميل نفــط مكافئ يوميا (نفط خام، غاز طبيعي، مكثفات غازية من بروبان وبيوتان ونافتا)، وكذلك إنتاج نحو 450 طنا من عنصر الكبريت يوميا.
كما تدير عددا من الحقول النفطية البرية المنتشرة على الجغرافيا الليبية، وحقولا بحرية متمثلة في ثلاث منصات بحرية، وخزان عائم، فضلا عن شبكة خطوط أنابيب برية مختلفة الأحجام ممتدة لآلاف الكيلومترات.
الثانية “توتال” الفرنسية والتي تقوم بتشغيل وإنتاج حقل المبروك وحقل الجرف من خلال إحدى فروعها، وهي شركة “سي.بي.تي.إل”، ويصل متوسط إنتاج الحقلين معا، إلى 60 ألف برميل في اليوم، فيما تشارك الشركة في إنتاج بعض الحقول الأخرى مثل حقل الشرارة.
وتسعى “إيني” إلى الحيلولة دون سيطرة فرنسا على منطقة نالوت، التي تتحدث تقارير أنها تحتوي على مخزون من الغاز يكفي أوروبا لمدة 30 ثلاثين عاما.
اضف تعليقا