تسلم الرئيس التونسي الجديد “قيس سعيّد” منصبه، وهو ما يزال يمتنع عن الإقامة بقصر قرطاج، في خطوة رمزية قد تعني الكثير لما ينتظر تونس من تغييرات ليس فقط في أسلوب الحكم بل أيضا في مضمون الإصلاحات بعد ثماني سنوات من الثورة.

من يتابع ردود فعل قطاع واسع من الشباب التونسيين على مواقع التواصل الاجتماعي، أو يتحدث مع بعضهم في مناطق تونس وخصوصا “العميقة”، يلمس درجة البهجة والشعور بالفخر بوصول الرئيس الجديد “قيس سعيّد” إلى قصر قرطاج، ويتجاوز الأمر المشاعر، فقد هبت فئات وجماعات شبابية بإطلاق مبادرات شعبية لتنظيف المدن وصباغة المباني، في أجواء تشبه كثيرا مبادرات لجان الأحياء الشعبية إبّان الثورة.

وبعض هؤلاء الشبان شاركوا في الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس الراحل “زين العابدين بن علي” سنة 2011، أو على الأقل نشأوا في أجوائها. ويعتقد كثير من هؤلاء الشبان اليوم أن ما أفرزته صناديق الاقتراع يومي السادس من أكتوبر/ تشرين الأول والثالث عشر منه، هو بمثابة “ثورة جديدة”، وصفها الرئيس “سعيّد” بـ”ثورة في إطار الشرعية” والقوانين.

لقد أفرزت الانتخابات التشريعية خارطة سياسية يغلب عليها التوجه الثوري بمزيج من التوجهات الإسلامية والعروبية ومستقلون وحتى شعبويون، كما اختار التونسيون رئيسهم الجديد بأغلبية ساحقة. 

بيد أن التركيبة المعقدة والمشتتة للقوى السياسية في البرلمان والإشارات التي أطلقها الرئيس الجديد في حملته الانتخابية وفي خطاب تسلمه للسلطة تؤشر، برأي مراقبين، إلى صعوبات وغموض كبير يحيط باختيار الحكومة الجديدة وملامح السياسات التي ستتبعها تونس في ظل الرئيس الجديد والحكومة المرتقبة.

حكومة الرئيس؟

لم يكن فوز أستاذ القانون الدستوري “قيس سعيّد” بالرئاسة والطريقة التي أدار بها حملته الانتخابية وحده مفاجأة، بل أيضا النسبة الساحقة من الأصوات التي حصل عليها (72,71%) في مواجهة منافسه نبيل القروي، رئيس حزب “قلب تونس” حديث النشأة، ما جعل عددا من المحللين في تونس يعتبرونه بمثابة استفتاء شعبي على الرئيس الجديد. ولأن نسبة مقاعد حزب النهضة، القوة الأولى في مجلس نواب الشعب، لا تتجاوز 24 في المائة، فإن تكليف رئيسه أو شخصية يختارها الحزب الإسلامي بتشكيل حكومة جديدة، طبقا لمقتضيات دستور 2014، سيتحتم عليه إجراء مشاورات ماراثونية وقد تكون شاقة جدا، من أجل التوصل إلى صياغة ائتلاف حكومي.

ومن مفارقات المشهد السياسي التونسي الذي أفرزته انتخابات 2019، أن التونسيين الذين عاقبوا النخب السياسية والمعارضة في الانتخابات التشريعية، صوتوا بكثافة لاختيار الرئيس “قيس سعيّد”، الأمر الذي جعل مكانة الرئيس من الناحية الرمزية تتجاوز بكثير الصلاحيات التي يمنحها له الدستور، والتي تتركز في ميادين السياسة الخارجية والدفاع وقضايا عامة. مقابل صلاحيات واسعة لرئيس الوزراء (وحكومته) الذي يستمد شرعيته من ثقة البرلمان.

ورغم الطابع البرلماني للنظام السياسي في تونس، فقد انبرت أصوات عديدة في تونس للحديث عن “حكومة الرئيس”، وهي أصوات تحركها دوافع مختلفة وأحيانا متعارضة تماما، بعضها ينطلق من “الشرعية الشعبية” الكاسحة التي حظي بها الرئيس الجديد مقابل التشتت في الخارطة السياسية بالبرلمان والاشتراطات المعلنة و”التعجيزية” أحيانا، من قبل الأحزاب المحتمل أن يقترح عليها حزب النهضة مشاركته في الحكومة. وبعضها الآخر، يرى في الوضع الحالي فرصته للدفع نحو تغيير طبيعة النظام السياسي ليصبح رئاسيا بالأمر الواقع في انتظار تعديل للدستور.

وهنالك فئة ثالثة ربما يراودها الحنين إلى عودة صيغة ما للنظام القديم، وهؤلاء لهم من يمثلهم داخل البرلمان وفي مؤسسات الدولة العميقة.

لقد أكد الرئيس “سعيّد” في خطاب تنصيبه بأنه “لا مجال للعودة إلى الوراء” سواء فيما يتعلق بالحريات أو البناء الديمقراطي، لكن الصعوبات التي يتوقع أن تواجه تشكيل الحكومة الجديدة قد تضع التونسيين ورئيسهم الجديد، أمام واحد من أشد الاختبارات التي تواجهها الديمقراطية الناشئة.

ففي حال نجح حزب النهضة في تشكيل الحكومة الجديدة، فسيكون ذلك بصيغة ائتلافية لا يُتوقع أن تكون أقل هشاشة من حكومة التوافق الوطني التي أقامها مع ليبرالي حزب “نداء تونس”، حزب الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي. وأكد الحزب الإسلامي الذي كان في مقدمة مؤيدي انتخاب سعيّد في الدورة الثانية من الانتخابات، أنه يراهن على دعم الرئيس سعيّد لتجاوز عقبات تشكيل الحكومة الجديدة، فيما يبدو أنه (الحزب الإسلامي) إشارة منه على إدراك صعوبة مهمته في ظل تشكيك قطاع من القوى السياسية في نواياه الإصلاحية.

أما إذا فشلت مساعي الحزب الإسلامي فسيكون الرئيس الجديد، أمام خيارات صعبة: أحدها، تعيين شخصية مستقلة من خارج الأحزاب تحظى بالقبول من طرف مناوئي فكرة حكومة يهمين فيها حزب النهضة، وفي هذه الحالة الأولى سيكون رئيس الوزراء مدينا لرئيس الجمهورية في المقام الأول، كما سيحمل ذلك مؤشرا على منعرج في الحياة السياسية التونسية، باتجاه التمهيد إلى تغيير في طبيعة النظام السياسي وتغيير مركز القرار السياسي من محور القصبة (مقر الحكومة) – باردو (مقر البرلمان)، إلى قصر قرطاج، مقر الرئيس.

أما الخيار الثاني، فسيكون اللجوء إلى تنظيم انتخابات جديدة، وهو خيار سيكون مرهقا للتونسيين الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع ثلاث مرات خلال شهر واحد. كما أن انتخابات تشريعية جديدة، قد لا تحمل بالضرورة تغييرا في الخارطة السياسية، أو على الأقل لن تؤدي إلى تفادي حالة التشتت، بحكم نظام التمثيل النسبي الذي يستند إليه القانون الانتخابي.

“ثورة الرئيس”!

إن الطابع المفاجئ لوصول أستاذ القانون الدستوري “قيس سعيّد” للحكم، أثار حيرة وفضول العديد من المراقبين للشأن التونسي، وخصوصا في البحث عن مفاتيح لفهم السياسات التي يمكن أن ينتهجها خلال ولايته الرئاسية في السنوات الخمس المقبلة. لكن هنالك بعض المؤشرات التي تساعد على فهم بعض المحددات في رؤيته. منها القاموس السياسي والأيديولوجي الذي يمكن استنتاجه من خطابه السياسي منذ ظهوره على الساحة السياسية إثر الثورة، وشبكة العلاقات أو المحيط الذي يتحرك فيه الرجل.

فـ”سعيّد” المستقل، سياسيا عن الأحزاب، المعروف بزهده ونظافة يديه، يوجد في صف أنصار الثورة، ويتبنى أفكارا سياسية ثورية ولكنه محافظ فيما يتعلق بالقيم المجتمعية، وهو محاط بمزيج مخضرم من شخصيات ومجموعات متعارضة المشارب، بعضها ذات توجهات إسلامية وعروبية محافظة وبعضها الآخر ذات توجهات ماركسية – لينينية.

ومن أبرز النقاط التي تعهد بها خلال حملته الانتخابية ما يعتبره “ثورة في إطار الشرعية”: إعادة تشكيل النظام السياسي، عبر انتخابات مجالس محلية بنظام انتخابي قائم على أساس الشخص وليس القوائم الحزبية، ومن ثم تشكيل مجلس وطني (بمثابة برلمان). وهو يرى في هكذا هندسة مؤسساتية للنظام الدستوري، وسيلة ملائمة لتحقيق المواطنين “أحلامهم ومشاريعهم وتطلعاتهم في العيش الكريم”.

ولأنه يعتقد بأن فشل السياسة التي تم انتهاجها في السنوات الأخيرة مرده إلى عقم المنظومة السياسية الحالية، فقد خلا “برنامجه” الانتخابي، وكذلك خطاب تنصيبه، من الحديث عن أية حلول ملموسة للتحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها البلاد، واكتفى بالتشديد على مكافحة الفساد والإرهاب والتأكيد على “المساواة أمام القانون” و”كرامة المواطن”.

وإذا ما مضى الرئيس الجديد في خطته بتغيير نمط النظام السياسي، فسيعني ذلك إدخال الحياة السياسية التونسية في مسلسل تغييرات مؤسساتية وقانونية تشمل الدستور نفسه، وهو أمر سيتطلب منه خوض مشوار طويل من الشد والجذب مع القوى السياسية في البرلمان وخارجه بما فيها مؤسسات الدولة العميقة، وهو مشوار لا أحد بإمكانه الآن أن يجزم بمخرجاته والأطراف أو القوى التي يمكن أن تستفيد منها.

وفي هذا السياق، يُطرح تساؤل عريض حول فرص إنجاز إصلاحات اقتصادية واجتماعية ومدى قدرة النخب الجديدة على تحقيق الانتصارات الواسعة للتونسيين، في بلد يغرق في المديونية وعجز كبير في موازنته، وتشتد الصراعات فيه بين هيئات رجال الأعمال ومراكز النفوذ المالي ومركزية الاتحاد العام التونسي للشغل النافذة. وهو البلد المحاط بجوار إقليمي غير مستقر.

بين “الياسمين” و”الكرامة”

إن نجاح تونس في تنظيم ثالث انتخابات حرة ونزيهة، خلال ثمان سنوات من ثورتها، يكرس صورتها في العالم كاستثناء في بلدان الربيع العربي. بيد أن تحقيق انتقال ديمقراطي وسلمي للسلطة، لم يكن كافيا لإقناع التونسيين بما أنجزته الحكومات المتعاقبة بل إن تصويت الناخبين كان عقابيا للطبقة السياسية بأغلبيتها ومعارضتها، علاوة على أن حضور بعض الأحزاب في البرلمان كاد يندثر تقريبا، مثل الجبهة الشعبية (يسار) و”نداء تونس” الذي تعرض للانقسام والتفكك.

وبقراءة نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية، فان الفائزين في الانتخابات هم مزيج من الأصوات من الإسلام السياسي وأحزاب عروبية ومستقلين، ويجمعهم الاصطفاف وراء شعارات الثورة ومن أبرزها “الكرامة”، وهي تعني مضمونا اجتماعيا واقتصاديا وإنسانيا، رفعه رواد الانتفاضة في ديسمبر/ كانون الأول سنة 2010، إثر حادثة حرق البائع المتجول محمد البوعزيزي نفسه في ميدان عام بمدينة سيدي بوزيد (وسط البلاد).

وتعتقد قطاعات واسعة من الشباب، وخصوصا في المناطق النائية والمهمشة التي انطلقت منها الثورة، أن الطبقة السياسية ومنظومة الدولة العميقة التفّت على مطالبها الاجتماعية والاقتصادية وأفرغتها من مضمونها، عبر تمكين جماعات ضاغطة وشبكات فساد من الهيمنة على مقاليد السلطة والثروة في البلاد.

يشدّد كثير من الشبان الذين أيدوا انتخاب الرئيس “سعيّد” وابتهجوا بوصوله إلى قصر قرطاج، على أن الثورة التونسية هي “ثورة كرامة”، وليس “ثورة ياسمين”. ذلك أن عبارة الياسمين التي تجد صدى رومانسيا في وسائل الإعلام العالمية والغربية بالخصوص، لا تعني بالنسبة للفقراء والفئات البائسة في تونس، سوى عبارة “مخملية” تنسجم مع مصالح النخب السياسية ورجال الأعمال، الذين توافقوا على “تقاسم السلطة والثروة”.

أما على مستوى المضمون المجتمعي والثقافي للثورة التي تحققت في تونس، فإن الخلاف أيضا قائم بين الفئات الصاعدة التي أفرزتها انتخابات 2019 وبين الطبقة السياسية التي كانت تقود البلاد في السنوات التي أعقبت الثورة.

ورغم أن الرئيس “سعيّد” حاول التقليل من مخاوف قطاعات من الرأي العام المحلي والخارجي، إزاء قضايا مجتمعية تتعلق بالحريات الفردية وحقوق المرأة، إلا أن التراجع الكبير للقوى الليبرالية العلمانية في البرلمان وصعود قوى محافظة مجتمعيا، سيجعل آفاق تطور الأوضاع في تونس في هذا المجال تحت مجهر الشركاء الأوروبيين والغربيين، والمؤسسات الدولية المانحة.