العدسة – ياسين وجدي:

العالم يتجه إلى حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بعدما أجهض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين أحلام الرئيسين الأسبقين الأمريكي رونالد ريجان والسوفيتي آنذاك ميخائيل جورباتشوف في عالم خال من التلاعب بالسلاح النووي.

أطلق ترامب كالعادة النار على اتفاقية جديدة في عهده ورد عليه بوتين برفع سقف التحدي ليدخل العالم في دوامة جديدة جراء تنصل نظام العم سام المتكرر من التزاماته، والتي نرصد ملامحها في سياق هذا التقرير..

أجواء ملتهبة !

لم تمر ساعات معدودات  على إعلان البيت الأبيض تعليق العمل بمعاهدة نزع الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، حتى أعلن الكرملين الإجراء ذاته ردا على الولايات المتحدة، مضافا له قرار بتوقيع الرئيس فلاديمير بوتين ببدء العمل على إنتاج صواريخ جديدة، بينها صواريخ أسرع من الصوت في أول تصعيد وصفته سكاي نيوز الأمريكية بأنه رفع لسقف التحدي.

واشنطن أطلقت قرارها عبر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بالانسحاب من المعاهدة ما لم تلتزم بها موسكو في غضون ستة أشهر، ولكن “بوتين” اجتمع السبت  2 فبراير مع وزيري الخارجية والدفاع، وقرر الرد بالمثل فورا مع تصعيد آخر.

وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو أعلن في هذا الإطار بدء العمل خلال الأشهر المقبلة في نشر صواريخ كاليبر على اليابسة، وهي نوع من الصواريخ المجنحة (كروز) التي تزود بها البحرية الروسية سفنها وغواصاتها عادة.

الأزمة انطلقت في أكتوبر2018 ، حيث هدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من معاهدة نزع الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى التي ترجع إلى حقبة الحرب الباردة وتعرف رسميا باسم “معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى”، متهما روسيا بانتهاكها، وهو الموقف الذي دعمه حلف شمال الأطلسي (ناتو) فيما وقف الاتحاد الأوروبي في منتصف الطريق حيث حث واشنطن وموسكو على احترام كل مقتضيات المعاهدة، وقال إنه لا يرغب أن تتحول القارة الأوروبية إلى ساحة مواجهات بين الجانبين في سيناريو متوقع أوروبيا!!.

تاريخ المعاهدة

ولدت المعاهدة النووية خلال عام 1987 ، بعد أن نشر الاتحاد السوفيتي هذه الصواريخ في أوروبا، ما أقلق الناتو وأدى إلى نشر أمريكا صواريخ مشابهة في أوروبا الغربية، ووقعت بين الرئيسين الأمريكي رونالد ريجان والسوفيتي آنذاك ميخائيل جورباتشوف، بهدف التخلص من الأسلحة النووية ذات المدى المتوسط، خاصة الأسلحة الفتاكة لأنها لا تحلق إلا لفترة قصيرة، والتخلي عن اختبار ونشر صواريخ نووية وتقليدية يتراوح مداها بين 500-5500 كم.

وبحلول مايو  1991، تم تنفيذ المعاهدة بشكل كامل، حيث دمر الاتحاد السوفيتي 1792 صاروخاً باليستياً ومجنحاً تطلق من الأرض، في حين دمرت الولايات المتحدة الأمريكية 859 صاروخاً، ومنذ ذلك التوقيت تتبادل واشنطن وموسكو الاتهامات بانتهاك المعاهدة .

وتتحدث الولايات المتحدة عن تطوير روسيا فئة جديدة من الأسلحة وتخصص الأموال لتطوير الأسلحة المضادة، أما روسيا فتعترض على تطوير أمريكا طائرات بدون طيار الهجومية، ونقل منصات إطلاق المسموح بها من نوع “إم كي- 41” من السفن إلى البر، كما حدث في رومانيا وبولندا ، كما تزعم واشنطن أن منظومة الصواريخ المتوسطة المدى الروسية تنتهك المعاهدة ، وهي الأمور التي تنفيها كل مرة روسيا.

تبعات التنصل !

انسحاب ترامب من المعاهدة النووية مع روسيا ليس الأول فسبق له الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني “اتفاق لوزان” الموقع في 2015، واتفاقية المناخ التي وقعت في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.

ولكن هذا التنصل له تبعات أخطر بحسب المراقبين ، حذره منها مع بداية انطلاق التهديدات بالانسحاب نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف مؤكدا أن  الانسحاب الأميركي من المعاهدة النووية “خطوة خطيرة”.

المراقبون يحذرون بدورهم من تسارع السباق إلى تطوير وإنتاج الأسلحة النووية، لدى كلا المعسكرين، فضلا عن حلفاء واشنطن وموسكو، فضلا عن أن لهذا الانسحاب تبعات ضخمة على السياسة الدفاعية الأميركية في آسيا، وتحديدا تجاه الصين منافستها الاستراتيجية الرئيسية التي يخوض ترامب معها حرباً تجارية.

يرى البعض أن هناك مخاوف جديدة وعميقة بانجراف بوتين وترامب إلى حرب باردة جديدة، وبحسب الواشنطن بوست الأمريكية فإن انتهاء المعاهدة لا ينذر بنشوب حرب باردة جديدة فحسب، بل يزيد احتمالات نشوب حرب نووية، بوصول الأسلحة النووية الأمريكية والروسية إلى مستويات قياسية، وحصول كل منهما على أسلحة باليستية عابرة للقارات، فكلا الطرفين يرغب في خوض سباق للتسلح النووي.

ووفق تصريحات العديد من المحللين الدبلوماسيين على الجانبين، لم يبد أن طرفا المعاهدة لم يعد لديهم الرغبة في الالتزام بها وحظر الصواريخ النووية المتوسطة المدى التي باتت منتشرة اليوم ؛ لذا لم يظهر أي منهما الرغبة الكافية لإنقاذها إذ تعتمد الصين على صواريخ مشابهة لـ 95% من أسطولها الأرضي ، إلى جانب حصول دول أقل قوة من الطرفين الأمريكي والروسي عليها، كـإيران والهند والمملكة العربية السعودية وكوريا الشمالية وتايوان، فهناك 10 دول لديها ترسانات صاروخية متوسطة المدى، بحسب الواشنطن بوست.

وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موجيريني جسدت هذه المخاوف في تصريحات واضحة أثناء اجتماع وزراء خارجية الاتحاد في بوخارست مؤخرا بقولها : “ما لا نريد أن نراه بالتأكيد هو أن تعود قارتنا لتصبح أرض معركة أو مكان تواجه فيها القوى الكبرى بعضها”.

داخليا في أمريكا صعدت المخاوف كذلك ، حيث أعرب الديمقراطيون عن قلقهم بأن سياسة الرئيس “أمريكا أولا” رفضت اتفاقية دولية أخرى، وقال النائب آدم شيف، رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، إن الانسحاب من المعاهدة “يهدد بحشد الأسلحة النووية التي تم وضع المعاهدة للحماية منه”.

استهداف الضغط الداخلي موجود في أجندة ترامب ضد بوتين ، وفي هذا الإطار يرى الدكتور محمد فراج أبوالنور، الخبير بالشؤون الروسية، أن انسحاب أمريكا سيصعد من التوتر بالعالم ويمثل تهديدا للأمن العسكري به، حيث سيؤجج من سباق التسلح بين روسيا وأمريكا، خاصة في ظل تطوير الولايات المتحدة لطائرات “إف 16” لتكون قادرة على حمل الصواريخ النووية، وهو ما سيمثل عبئا على الجانب الروسي الذي يواجه أزمات بخلاف نظيره الأمريكي، وهو ما سيترتب عليه إمكانية فرض إجراءات صعبة لضرورة رفع كفاءة القوة العسكرية وتطوير تلك الأسلحة ما سيتسبب في ضغوط على الشعب الروسي.

الأمر الأخطر كذلك هو ما رصده تحذير كبير المفاوضين من الجانب الروسي نائب وزير الخارجية سيرجي ريابكوف، أنه بعد انهيار المعاهدة فإن اتفاقية أخرى هي معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية (ستارت) يمكن أن تنهار، حيث تنتهي هذه المعاهدة التي تحد من عدد الرؤوس النووية لدى واشنطن وموسكو عام 2121، وأشار ريابكوف إلى “سؤال كبير” حول ما يمكن أن يحدث بعد ذلك، وهو ما يبدو أنه سيظل سؤال الساعة حتى حين!!