كانت لحظة الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016 لحظة فارقة في تاريخ تركيا وربما المنطقة، وقد تغيرت تركيا بشكل واضح بعد هذا التاريخ، سواء على المستوى الداخلي فيما يخص هيكلة مؤسسات الدولة من جيش وشرطة وقضاء وتعليم، أم على المستوى السياسي عن طريق تحول نظام الحكم في الدولة إلى النظام الرئاسي.

كذلك فإنه من الواضح تغير السياسة الخارجية لتركيا بعد الانقلاب على أساس مواقف دول العالم أثناء المحاولة الانقلابية. فبعد الانقلاب، حدث تقارب بين تركيا وروسيا في بعض الملفات على حساب الولايات المتحدة الأمريكية، التي كان وما زال موقفها داعم بصورة أو بأخرى للانقلابيين. 

أمريكا تدعم الانقلاب

وهناك دلائل عدة على دعم أو معرفة أمريكا بالانقلاب على أقل تقدير. فاعترافات جنرالات الانقلاب أثناء التحقيقات، خاصة قائد منطقة هاتاي العسكرية في تركيا، جاءت مؤكدة على أن الانقلاب تم توجيهه من قاعدة إنجيرليك بحضور ضباط أمريكيين. وجاء بيان السفارة الأمريكية في تركيا صادمًا، حيث وصفت خلال البيان – الذي حذر الرعايا الأمريكيين – الوضع بأنه انتفاضة للجيش، ثم بعد تأكد فشل الانقلاب تغيرت النبرة، وصدرت البيانات الرسمية التي تدعم الحكومة التركية.

وقبيل الانقلاب، صدرت عدة تصريحات من مسؤولين أمريكيين تشير إلى تورط واشنطن في المحاولة الانقلابية. من ذلك مقال نشرته فورين بوليسي بعنوان “كيف نحل مشكلة مثل أردوغان؟”، لـ “جون حنا”، مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس الأمريكي السابق “ديك تشيني”، قال فيه أن ردوغان يعتبر مصدر خطر يهدد تركيا والشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي وأمريكا. 

وقبل أسابيع من الانقلاب أكد الأكاديمي الأمريكي المتخصص بالعلوم العسكرية ميشيل روبين في مقال بأنه في حال حدوث انقلاب في تركيا، فإن أمريكا ربما لن تقف ضده في ضوء قراءته للواقع. وفي 30 مايو/ أيار الذي سبق الانقلاب، نشرت الصحيفة الأمريكية “فورين بوليسي” مقالًا مثيًا للجدل عنونته ب “متى سيكون الانقلاب القادم في تركيا؟” وذكرت بين ثنايا هذا المقال بأن قادة وجنرالات في الجيش التركي سينقلبون على رئيس الجمهورية أردوغان حتى يسقطوه.

وفي 16 يونيو/ حزيران خرجت نفس الصحيفة من جديد ولكن بكاتب ذو منصب سياسي رفيع المستوى وهو مستشار الأمن العالمي لمساعد الرئيس في فترة رئاسة جورج بوش، ديك تشيني، وقال “ستعيش تركيا تصفية حسابات عاجلًا أم آجلًا”، ثم قالها صراحة: “هنالك احتمال كبير يُنبئ بحتمية حصول الانقلاب في تركيا”. كما أنه في اجتماع للكلية الحربية الأمريكية، قبل الانقلاب دار الحديث حول موضوع الانقلاب في تركيا، وقيل حينها إنه في حال حصل انقلاب في تركيا فإن أمريكا لن تقف ضده.

حماية فتح الله جولن

ورغم مرور سنوات على محاولة الانقلاب الفاشلة فإن واشنطن ما تزال ترفض مطالب أنقرة بإعادة فتح الله جولن وكبار أعضاء تنظيمه، المتهمين بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة، وقد شكل هذا الموضوع نقطة مهمة في العلاقات الثنائية بين أنقرة وواشنطن. 

فقد بدأت وزارة العدل التركية أولى خطوات المطالبة بتسليم جولن، في 19 يوليو/تموز 2016، عبر إرسال أربعة ملفات متعلقة بطلب التسليم إلى السلطات الأمريكية وعقب مراسلات جرت بين وزارتي العدل التركية والأمريكية في أغسطس/آب 2016، كما أرسلت أنقرة وفدًا إلى واشنطن لإجراء محادثات حول تسليم زعيم التنظيم، هذا بالإضافة إلى المطالبات المتعددة من كل القادة الأتراك بتسليم رأس الانقلاب. 

لكن رغم ذلك، ما زالت الولايات المتحدة ترفض تسليمه، بل وتحميه وتترك له حرية التخطيط والعمل من أراضيها. ولذلك اتهم وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو واشنطن بالوقوف وراء الانقلاب الفاشل. حيث قال في تصريح لصحيفة Hurriyet التركية، إنه من الواضح تمامًا أن الولايات المتحدة تقف وراء محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز وأن شبكة جولن “هي من نفذتها بناء على أوامرها”.

وأضاف صويلو أنه قبل مضي 24 ساعة على محاولة الانقلاب، قال لقناة تلفزيونية، عبر الهاتف، إن الولايات المتحدة تقف خلف ما حدث، مضيفًا: “علمنا من وثائق بريطانية بعد سنوات عدة أن الولايات المتحدة كانت وراء انقلاب عام 1960، كما أنها كانت تقف خلف انقلاب عام 1980، ومن الواضح أنها كانت تقف خلف عملية 28 فبراير/شباط (الانقلاب عام 1997)”. وأشار إلى أنه بعدما أصبح وزيرًا للداخلية لاحظ أنه أينما تكمن أنشطة منظمة جولن، فإن الولايات المتحدة تقف وراءها.

سياسة خارجية أكثر استقلالية

وعلى ضوء ذلك تحسنت علاقات تركيا مع كل من روسيا والصين، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، حيث سعت تركيا وروسيا لإبرام تفاهم مشترك بشأن التعامل مع الملف السوري وعدة مجالات أخرى مثل التعاون العسكري الثنائي. ونتج عن هذا التعاون صفقة عسكرية ضخمة دللت على تحسن العلاقات بين البلدين، وهي شراء تركيا منظومة صواريخ S-400 الروسية على الرغم من اعتراضات واشنطن على الصفقة.

كذلك، اتضح أن هناك هدفًا تركيًا واضحًا نحو الاستقلال الأمثل في التكنولوجيا العسكرية مع التركيز بشكل خاصّ على صناعة الدفاع الوطني لبناء دبابات وطائرات هليكوبتر هجومية وطائرات بلا طيار وأقمار صناعية وطائرات مقاتلة وسفن حربية. واستقلال تركيا في الصناعات الدفاعية يمنع ارتهانها لواشنطن أو أي قوة خارجية، ويمنحها حرية أكبر في اتخاذ قراراتها السياسية.

كما يرى البعض أن تركيا بدأت تستخدم قوتها الخشنة كرد فعل لما حدث من دعم غربي للانقلاب، حيث أدركت تركيا أنها بحاجة إلى إظهار القوة لردع القوى الأجنبية عن التدخل في شؤونها الداخلية. وأثبتت أنقرة أيضًا أنها على استعداد تامّ لاستخدام القوة الصارمة لحماية مصالحها الوطنية لا قوتها الناعمة فحسب. ويبدو أن الموقف الأمريكي من الانقلاب سيظل في ذهن متخذ القرار التركي في كل توجهاته الخارجية لردح من الزمن.