تستمر نكبة فلسطين بكونها فعلا متواصلا لم يتوقف منذ وقعت أحداثه العسكرية في مايو/أيار من عام 1948، أي قبل 71 عاماً، بدون أن تلوح في الأفق بوادر مشجعة أو بارقة أمل تستند إلى عوامل موضوعية تتصل بوحدة فلسطينية أو بتنظيم فلسطيني شامل يؤطر تحت سقفه أبناء الشعب الفلسطيني.
13.1 مليون فلسطيني يوجدون اليوم في العالم بحسب المعطيات التي نشرها جهاز الإحصاء الرسمي الفلسطيني، أول من أمس، لا يزال نحو 50 في المائة منهم على الأقل يعيشون في المنافي وأرض اللجوء، سواء كان ذلك في الدول العربية المجاورة، التي كانت تسمى مرة دول الطوق والمواجهة، أم في المنافي البعيدة في شتى أصقاع الأرض. يعيشون في ظروف معيشية متفاوتة، بين من يملكون حقوقاً فردية ومواطنين تحترم إنسانيتهم كأفراد منزوعي الهوية الجماعية، وبين من لا تزال “حالة اللجوء” باباً مشرعاً للتنكيل بهم وانتهاك أدنى حقوقهم الإنسانية البسيطة، وحرمانهم من العمل وحرية التنقل.
في الوطن يتوزع من بقي من الفلسطينيين تحت ثلاث منظومات حكم تقبض على مصائرها إلى درجة حصارها (كما في قطاع غزة)، دولة الاحتلال. في الأراضي المحتلة عام 1948 (في الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل التاريخية) حيث يشكل الفلسطينيون ممن فرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية نحو 21 في المائة من مواطني دولة الاحتلال، منهم أكثر من 350 ألفاً من مهجري الداخل الفلسطيني. التجمع الآخر في الوطن هو الفلسطينيون الذين يعيشون في الضفة الغربية والقدس الواقعتين تحت احتلال مباشر، لكنه متفاوت في درجة الخضوع المباشر للاحتلال تحديداً في الضفة الغربية تبعاً لتعريف وتحديد مناطقها الجغرافية (حسب إعلان أوسلو)، بين مناطق “أ” التي تتمتع فيها السلطة الفلسطينية ظاهراً بصلاحيات مدنية وأمنية كاملة، وبين مناطق “بي” و”ج” التي تخضع بشكل شبه كلي لإرادة الاحتلال، وتحت وطأة الفلتان الأمني للمستوطنين. وفي قطاع غزة يعيش التجمع الثالث من الشعب الفلسطيني على أرض وطنه التاريخي في حالة حصار متواصل منذ أكثر من 12 عاماً، يتحكم الاحتلال عبره حتى بنوع الخضروات بل وأعشاب التوابل والقدر المسموح به إدخاله لأهل القطاع.
يعكس هذا الواقع، مع ما يلاقيه ويعيشه اللاجئون الفلسطينيون، في المنافي العربية والأجنبية، استمرار النكبة كفعل متواصل لا يمكن بالضرورة حصر تأريخ بدايته بدخول الجيوش العربية لفلسطين بعيد إعلان ديفيد بن غوريون في 16 مايو/أيار 1948 عن إقامة “دولة يهودية في أرض إسرائيل، هي دولة إسرائيل”، بل ربما من الواجب العودة في تحديد موعد فصول بدء النكبة الفلسطينية، إلى محطات سابقة، أبرزها أو أولها كحدث يمكن رصده بوصفه مؤشراً يرفد أحلام الحركة الصهيونية بدعم خارجي محتمل، بتصريح اللورد جيمس أرثور بلفور الموجه لرئيس الوكالة اليهودية، حاييم فايتسمان، في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 والذي جاء فيه: “تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”.
الفعل الثاني المؤسس للنكبة، إذا تجاوزنا الكتاب الأبيض ولجان الأمم المتحدة المختلفة، والذي يعد الأخطر في مسلسل النكبة الفلسطينية، هو قرار التقسيم الدولي في 29 نوفمبر 1947 باعتباره التشريع الدولي الأول لحق الصهيونية على فلسطين، وتشريع مشروعها بإسناده بقرار شرعية دولية، فيما شكل إعلان بريطانيا عن قرارها سحب قواتها من فلسطين بالرابع عشر من مايو شرارة الوضوء الأخضر لإقامة “إسرائيل” على الأرض الفلسطينية.
خرج الفلسطينيون من المواجهة العسكرية بين جيوش الدول العربية وجيش الإنقاذ وقواتهم العسكرية، وبين قوات الهاغاناه المدربة جيداً وباقي العصابات الإسرائيلية ولا سيما الليحي والإيتسل، وقد تحول أكثر من 800 ألف منهم إلى لاجئين، وتعرضت أكثر من 500 قرية للهدم واحتلال لم يبق من فلسطين التاريخية خارج قبضته سوى الضفة الغربية وقطاع غزة والشطر الشرقي من مدينة القدس. مع إنهاء المعارك بدأت تغريبة طالت فصولها ولا تزال مستمرة، لكن تحت ظروف دولية تبدو اليوم أكثر انحيازاً لدولة الاحتلال، مع تراخٍ في التزام النظام العربي تجاه قضية فلسطين التي كانت يوماً قضية العرب الأولى لتتحول اليوم إلى قضية بين الفلسطينيين وإسرائيل، ما لم تكن لها ارتدادات تضر أو تهدد هذا القطر أو ذاك.
تمكّن الشعب الفلسطيني بعد أن استيقظ على نكبته ووقعها، مشرداً في المنافي، أو خاضعا لدولة عربية مجاورة، من النهوض مجدداً بفعل نشاط فصائل ومنظمات الفدائيين، وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 كخطوة رعتها بداية الدول العربية، قبل أن تسيطر عليها منظمات العمل الفدائي، لكن بعد أن كان ما تبقى من فلسطين قد وقع تحت الاحتلال في حرب يونيو/حزيران 1967، التي أطلق عليها “حرب إزالة آثار العدوان” وكانت نتيجتها المباشرة على الشعب الفلسطيني زيادة رقعة العدوان ليشمل فلسطين التاريخية كلها.
لم يقف الشعب الفلسطيني وثورته خلال هذه العقود منذ انطلاق العمل المسلح، وتحديداً بين نكسة حزيران وغزو لبنان، مكتوف اليدين، بل خاض حروباً وعمليات كفاحية وفدائية، وأدار مع الاحتلال، معارك ومواجهات عسكرية، توّجها بتفجير الانتفاضة الأولى في ديسمبر/كانون الأول من عام 1987 وإعلان الاستقلال الفلسطيني في الدورة الثامنة عشر للمجلس الوطني، عام 1988. زاد هذا مع التضامن الدولي والشعبي من ثقة الشعب الفلسطيني بنفسه وبقرب تحرره من نير الاحتلال، بما ترجم شعار الرئيس الفلسطيني وقائد الثورة، ياسر عرفات “الدولة على مرمى حجر”. لكن الدولة لم تكن على مرمى حجر، فقد قاد مسار مفاوضات فلسطيني منفرد بعد مؤتمر مدريد، جرت جولاته في أوسلو إلى توقيع أول اتفاق رسمي بين حكومة الاحتلال الإسرائيلي بقيادة إسحاق رابين وبين منظمة التحرير الفلسطينية، عرف بإعلان المبادئ الذي وقع في البيت الأبيض تحت رعاية الرئيس بيل كلينتون.
لكن الإعلان وما استثناه من قضايا جوهرية في نصوصه وأجّله إلى مفاوضات الحل الدائم: القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات، تحول لاحقاً إلى مصدر كل الكوارث التي عادت لتصيب الشعب الفلسطيني وتكرس تواصل النكبة، من حصار عرفات في المقاطعة بعد الانتفاضة الثانية وحتى الانقسام الفلسطيني، عام 2007 وتتويج حالة الانشقاق القائمة.
ساهم الانقسام الفلسطيني من جهة، وإصرار السلطة الفلسطينية في رام الله التي أنشئت بموجب اتفاق أسلو، على التمسك بالاتفاق وبمبدأ التنسيق الأمني، وتعطيل الحياة السياسية الفلسطينية، بفعل وقع الانقسام وفشل مساعي واتفاقيات المصالحة المختلفة، إلى تبلور استراتيجية جديدة لدى رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في العامين الأخيرين، وبشكل أوضح بعد انتخاب دونالد ترامب. تقوم استراتيجية نتنياهو الجديدة، على الإمعان في تكريس حالة الانقسام كخيار استراتيجي، وليس مجرد استغلال لوضع قائم، يمكِّن دولة الاحتلال تحت قيادة اليمين الحالي، وبفعل الدعم المطلق من إدارة ترامب، وتحييد العالم العربي بشكل شبه كلي، من سد الطريق كليا أمام حل يقوم على مبدأ الدولتين والمضي نحو تحويل الاحتلال إلى حالة دائمة تتعايش معها “الكيانات” أو المنظومات السياسية الفلسطينية، فيما يقدم العرب التمويل اللازم لتحسين ظروف الحياة الفلسطينية في هذه الأراضي وإقفال الباب كليا على باقي الملفات، وخاصة القدس وحق العودة.
تدخل نكبة فلسطين عامها الثاني والسبعين، وقد خسر الشعب الفلسطيني مكاسب هائلة راكمها على مرّ العقود الماضية، وهو اليوم مهدد حتى بخسارة ما تبقى من أرضه لصالح الاستيطان، وما تبقى من حلم التحرير فيما تتصارع ثورة تحولت إلى سلطة ومقاومة، لا هي بسلطة ولا هي بمقاومة اعتيادية، على موقع صدارة يبقي على دوران عجلة الاحتلال لسنوات طويلة آتية.
اضف تعليقا