أحمد حسين
رغم الاختلاف حول مدى نجاح أو فشل الثورة التونسية، إلا أن أحدا لن ينكر أنها الأفضل من بين ثورات الربيع العربي التي اندلعت شرارتها أواخر عام 2010 على يد الشاب التونسي “محمد البوعزيزي” في مدينة “سيدي بوزيد”.
ففي مصر نجحت دولة مبارك في العودة مجددا أكثر قوة وقمعا، وفي ليبيا يتقاتل الجميع، ولا تزال الحرب تفتك باليمن، أما سوريا فدماء مئات الآلاف شاهدة على ما آلت إليه الأمور هناك.
الحالة التونسية تختلف كثيرا وتتميز وسط دول الربيع العربي، بحالة توافق سياسي بين الفرقاء جنبت البلاد مصائر جيرانها، وأفرزت معادلة قل نظيرها، غير أن الأمر ينطوي – رغم الإنجازات – على إخفاقات عدة وتحديات عميقة تحاول استئصال شأفة الثورة.
مكاسب سياسية
ربما لا يمكن لأحد أن يتجاوز تقييم الثورة التونسية التي تدخل عامها التاسع، دون الحديث عن كم كبير من المكاسب السياسية التي فتحت الباب لأن تكون “الثورة النموذج” بين باقي دول الربيع العربي.
ولعل التوافق السياسي بين الفرقاء، متمثلين في حزب نداء تونس المحسوب على نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وحركة النهضة المحسوبة على تيار جماعة الإخوان المسلمين، وغيرهما من المكونات اليسارية والنقابية والعمالية.
نقطة التحول الكبرى كانت في توافق جميع هؤلاء على ضرورة نبذ الخلافات الجذرية، والتأسيس على أرضية جديدة ومشتركة، إلى حد دفع الإسلاميين هناك إلى تقديم ما سمي تنازلات عن بعض ثوابت الشريعة الإسلامية، بحسب وصف كثيرين.
ومن بين تلك التنازلات مؤخرا، سعي الدولة بتكليف من الرئيس الباجي قايد السبسي إلى سن قانون يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث، وهو التوجه الذي رفضته بشدة وحزم مؤسسات إسلامية كبرى وعلى رأسها الأزهر الشريف.
كما أنجزت تونس، بفضل الثورة، عددا من المكاسب السياسية، بينها صياغة دستور جديد في 2014، ورفع سقف الحريات، وتطور المشاركة السياسية والانخراط في الشأن العام، فضلا عن حريات إعلامية واسعة.
ورغم أن انتخابات الرئاسة أفرزت شخصية محسوبة على النظام الذي أسقطته الثورة، إلا أنها بجانب الانتخابات التشريعية وضعت أساسا متينا لفكرة التداول السلمي للسلطة، دون تدخلات أمنية وبنزاهة وشفافية شهد بهما الجميع.
زوال القبضة البوليسية التي حكم بها بن علي البلاد، كان من بين منجزات الثورة الواضحة، حيث كفت أيدي أجهزة الأمن عن التغول في السلطة والعبث بمقدرات البلاد.
واستمرت الثورة أيضا في الحفاظ على المؤسسة العسكرية طرفا محايدا لا يتدخل في الصراع السياسي القائم، ويراقب الأوضاع من بعيد للحماية كما حدث في أيام الثورة الأخيرة، وليس للتدخل أو السيطرة.
مرارة الوضع الاقتصادي
وإذا كانت تونس نجحت في عملية الانتقال الديمقراطي بعد الثورة، إلا أن هذا لم يترافق مع نهوض اقتصادي واجتماعي؛ في ظل ارتفاع نسب البطالة ومعدلات التضخم وانخفاض القدرة الشرائية لدى الفئات والشرائح الدنيا وحتى المتوسطة من التونسيين.
السبسي نفسه أقر في خطاب سابق يرجع إلى شهر مارس الماضي، بأن 79,9 % من التونسيين يشعرون بالإحباط وأن الشباب في المقدمة منهم، كما اعتبر أن الوضع الاقتصادي تأخر في العديد من المجالات، مقارنة مع ما كان عليه قبل الإطاحة بنظام بن علي.
مؤشرات عديدة تشي بأن الوضع في تونس يزداد صعوبة، بينها انكماش الاقتصاد إلى أقل من 1%، فيما فاقت نسب البطالة الـ15%، وتباطأ نمو الاستثمارات الأجنبية بفعل التوترات الأمنية.
وبحسب وزير المالية الأسبق، الخبير الاقتصادي، حسين الديماسي، فإن كل المؤشرات تظهر أن الوضع الاقتصادي ساء مقارنة بالسنوات الأولى للثورة عندما كانت تونس تسجل معدلات نمو بين 4 و5% بين عامي 2010 و2011.
وأضاف أن غالبية السياسات الاقتصادية كانت خاطئة طيلة السنوات الماضية، والشعب يدفع ضريبة تلك السياسات، موضحا: “ميزانية الدولة انساقت إلى زيادات في الأجور، ما نتج عنه ارتفاع في نسب التداين والتضخم المالي، وهذا ما جرنا اليوم إلى انحدار الدينار التونسي مقارنة بالعملات الأجنبية”.
وتابع الوزير الأسبق أن الحكومات المتعاقبة منذ الثورة لم تعط أهمية للقطاعات المنتجة، فضلا عن قرارات زيادة الضرائب وارتفاع الأسعار وانهيار العملة.
مؤامرات الثورة المضادة
في ضوء تفاقم الضغوط الاجتماعية والمعيشية، شهدت وتشهد تونس العديد من الإضرابات والاحتجاجات لأسباب مختلفة.
ورغم كون بعضها مبررا وذو حيثية، إلا أن الآخر تشوبه الريبة، ويصنفه البعض – بجانب بعض الأحداث الأخرى كالاغتيالات السياسية – بأنه يدخل في سياق الثورة المضادة.
مؤخرا، أعلنت مجموعة من النشطاء، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن إطلاق حملة “السترات الحمراء” على غرار “السترات الصفراء في فرنسا، كـ”حركة احتجاج سلمية للمطالبة بالتغيير”.
كثيرون يرون أن الحملة ممولة ويقف وراءها أطراف داخلية وخارجية معادية للثورة التونسية، رغم أن الإعلان الرسمي لها يؤكد أنها حركة مستقلة، لكن الاسم الوحيد الذي أعلنته الصفحة الرسمية للحملة حتى الآن في قيادتها ، هو “برهان العجلاني”، المناهض الصريح للإسلاميين شركاء الحكم في البلاد.
نشطاء تونسيون ألمحوا إلى ثمة تورط سعودي وإماراتي في دعم الحملة، بعد أن فشلتا على مدار سنوات في إخضاع السبسي لرغبتيهما في قمع الإسلاميين أو شراء ولاءات وذمم شركاء الحكم هناك.
أحد النشطاء قال إن “حركة السترات الحمراء في ظاهرها سلمية، وفي حقيقتها تخريب وتدمير تونس بتمويل إماراتي سعودي مصري، فانتبهوا أيها التونسيون”.
النائب عن حزب حركة النهضة، محمد بن سالم، وصف في تصريحات صحفية الحملة بالتقليد الأعمى لمثيلتها في فرنسا، مؤكدا وجود دوافع سياسية تحرّك القائمين على الحملة، فضلا عن وجود أطراف سياسيةً تقف وراء هذه الحملة تحت غطاء التحرك المدني والإعلامي، ومنهم مالك قناة “نسمة” التونسية، نبيل القروي، الذي يرفض ومن وراءه الاستقرار الحكومي والاجتماعي.
النائب جلال غديرة عن كتلة “الائتلاف الوطني” الداعمة لحكومة يوسف الشاهد يقول: “وصلتنا معلومات بأن من يمول ويقف وراء هذه الدعوات المشبوهة للاحتجاج تحت غطاء التحرك المدني الخالي من التحزب، هم في الأصل مجموعة من الأطراف السياسية التي تكن العداء لحكومة الشاهد وترفض الاستقرار الحكومي والاجتماعي”.
الإمارات بالمرصاد
وكانت الإمارات بالمرصاد لثورة الياسمين في تونس وهي التجربة الوحيدة التي لم تشهد انتصارا للثورات المضادة في دول الربيع العربي، وزادت حدة الترصد بعد موقف تونس الرافض لقطع العلاقات مع قطر.
أحد ملامح هذا الترصد ما بثه ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي من تسجيل مسرب يكشف مخطط الإمارات لتهييج الأوضاع وإشعال المظاهرات في تونس، لإسقاط حركة النهضة الامتداد الفكري لجماعة الإخوان المسلمين.
تقارير إعلامية كشفت عن غضب إماراتي رفيع المستوى من الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، الذي رفضت الإمارات إلى الآن استقباله رسميًا، رغم تأكيد مستشاره السياسي سابقًا (وزير الخارجية الحالي)، خميس الجهيناوي، في أكتوبر 2015، أن السبسي سيزور أبو ظبي.
وكان الإعلامي التونسي، سفيان بن فرحات، أكد أثناء مداخلة على قناة “نسمة” التونسية الخاصة، في 18 مايو 2015، أن السبسي أعلمه في لقاء خاص أن الإمارات طلبت منه إعادة سيناريو مصر، وإزاحة حركة النهضة التونسية؛ للإيفاء بتعهداتها المالية لتونس، إلا أن الأخير رفض ذلك، وفضّل سياسة الحوار والتوافق لتفادي الحرب الأهلية بالبلاد وإراقة الدماء.
وكشف وزير الخارجية الأسبق، أحمد ونيس، أن التحالف بين نداء تونس وحركة النهضة دفع الإمارات إلى إغلاق أبوابها أمام التونسيين؛ كوسيلة ضغط على الحكومة.
الكاتب التونسي سامي الجلولي رئيس مركز جنيف للسياسة العربية وصاحب كتاب “الإمارات ما قبل الكارثة.. أسرار وخفايا”، قال إن الإمارات تسعى جادة لزعزعة معادلة الانتقال الديمقراطي في تونس، مشيرًا إلى أن العديد من الأحزاب والجمعيات ووسائل الإعلام من ورقية، مسموعة ومرئية التي حرّضت على الفوضى في تونس أوائل العام الماضي، “تلقّت دعمًا من الإمارات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة”.
ونقل عن الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، والذي هاجم الإمارات علانية في أكثر من مناسبة، علمه بالمبالغ المالية الكبرى التي خصصتها الإمارات لضرب وحدة تونس واستقرارها وإدخالها في دوامة العنف والحرب الداخلية.
وفي يونيو الماضي، كشفت وثيقة مسربة ملامح الخطة الإماراتية للتدخل في السياسة الداخلية التونسية، للوقوف ضد تجربة التوافق و”تحالف الدساترة والإسلاميين”.
الوثيقة التي تقع في 7 صفحات فقط، عبارة عن ورقة سياسات خاصة بتونس بعنوان: “الاستراتيجية الإماراتية المقترحة تجاه تونس” أعدتها وحدة الدراسات المغاربية في مركز الإمارات للسياسات ومقره أبو ظبي، والذي يتمتع بنفوذ قوي لدى صناع القرار هناك.
وبحسب الوثيقة، تنقسم الاستراتيجية الإماراتية لاختراق تونس على 3 محاور، هي: محاربة الإسلام الراديكالي في أبعاده الأمنية والسياسية والفكرية، بناء كتلة سياسية موالية في الساحة الداخلية، وكبح النفوذ القطري في الساحة التونسية.
اضف تعليقا