العدسة – فتحي عباس
أجواء ملبدة بالغيوم، تلك التي عاشتها دول الربيع العربي خلال السنوات القليلة الماضية، منذ اندلاع شرارة الثورات التي شهدتها المنطقة العربية، من ناحية تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
الحديث هنا لا يتعلق بالدول التي شهدت ثورات ولا تزال الأوضاع الأمنية فيها غير مستقرة، مثل سوريا وليبيا، ولكن التخوفات من اندلاع شرارة جديدة في الدول التي يفترض أنها استقرت نسبيا.
هذه الشرارة المتوقعة وتحديدا في تونس ومصر، لتشابه الأوضاع الآن لما قبل ثورات الربيع العربي، وفي بعض التقديرات أسوأ كثيرا، بعد تراجع مستويات المعيشة، وفرض مزيد من الضرائب والرسوم.
تونس كانت على موعد خلال الأيام القلية الماضية، مع اندلاع شرارة جديدة رفضا للأوضاع الاقتصادية السيئة، وهو ما فتح الباب واسعا أمام التكهنات بموجة ثورية جديدة، فهل تسير مصر على نفس الطريق أم لا؟.
شرارة تونس
ومثلما كانت تونس الشرارة الأولى لثورات الربيع العربي، فإنها الآن تحاول تكرار التجربة لقيادة المنطقة لحالة من التمرد على السياسات الاقتصادية للأنظمة الحاكمة.
في مطلع الشهر الجاري شهدت تونس موجة احتجاجات عنيفة خرجت في عدة مدن، وهي تظاهرات يحركها العامل الاقتصادي بالأساس، فليست فئوية أو هدفها تغيير نظام الحكم وإسقاطه، أي أنها لا ترفع مطالب سياسية.
المطالب المرفوعة تلخصت في تحسين الأوضاع المعيشية، وإلغاء الضرائب المرتفعة، والعمل على الحد من تزايد معدلات البطالة، وإنهاء التقشف.
وهنا فإن التظاهرات لا تدخل في منحنى تغيير نظام الحكم، ولكن لوجود اعتراضات على الأداء الاقتصادي للنظام التونسي والحكومة فقط، وهذا جزء من طبيعة المشهد في تونس، لعدم وجود اتساع لرقعة التضييق السياسي أو تراجع مناخ الحرية.
ولكن هل تمتد الأوضاع في تونس للتحول إلى “ثورة” جديدة؟
الإجابة على هذا السؤال ستكون من قبل النظام التونسي والحكومة، باتخاذ إجراءات من شأنها تهدئة الأوضاع، والحيلولة دون تصاعد الأحداث.
ثورات الربيع العربي كانت في الأغلب مظاهرات رافضة لسياسات الأنظمة، ولكن مع التعامل العنيف لقمع هذه الاحتجاجات ساعد في تحولها لثورة، بعد مقتل عدد من المتظاهرين.
ولكن يبدو أن الحكومة التونسية تدرك تبعات أي تصعيد ضد الاحتجاجات، فعلى الرغم من المواجهات مع المتظاهرين ومقتل أحدهم واعتقال المئات، إلا أنها مع تواصل التظاهرات لجأت إلى اتخاذ خطوة للوراء قليلا.
الحكومة التونسية بدأت في طرح خطة إصلاح لتهدئة الشارع المحتقن بسبب الاعتقالات وقتل أحد المتظاهرين، وتقدمت بهذه الخطة إلى البرلمان.
وقال مسؤولون، إن خططا اقترحتها الحكومة قدمت إلى البرلمان، متضمنة خطة لإصلاح قطاع الرعاية الصحية، وقطاع الإسكان، وزيادة الإعانات التي تتلقاها الفئات الفقيرة.
مصر على الخط
الأوضاع الاقتصادية في مصر لا تختلف كثيرا عن تونس، وربما أسوأ، فالظرف العام في البلدين، والإجراءات التي تتخذها الحكومتان متقاربة إلى حد بعيد، خاصة وأنهما حصلا على قرض صندوق النقد الدولي، بل ورغبة تونس في الحصول على قرض جديد.
ويفرض صندوق النقد الدولي عدة اشتراطات على الدول التي ترغب في الحصول على القرض، كرفع الدعم وفرض المزيد من الضرائب والرسوم، بدعوى “الخطط الإصلاحية”.
لا يكاد يمر يوم على مجلس النواب المصري، إلا ويمرر قرارا بفرض رسوم أو ضرائب إضافية، كأحد تبعات قرض صندوق النقد الدولي، خاصة وأن مصر تحصل عليه على دفعات أو شرائح، وكل شريحة ترتبط بإجراءات جديدة تزيد من معاناة المصريين.
ويرتبط بصندوق النقد الدولي عدة شروط، من بينها تعويم الجنيه المصري، ما أسفر عن خفض قيمة الجنيه إلى النصف، وارتفاع أسعار كل السلع، وخفض الدعم المقدم على السلع، سواء الغذائية أو البترولية.
وبخلاف الأوضاع الاقتصادية السيئة، فإن ثمة عوامل أخرى تدفع باتجاه اندلاع شرارة غضب مرتقبة، خاصة مع إغلاق المجال العام في مصر أمام المعارضة السياسية، وتراجع الحريات بشكل عام، وحرية الرأي والتعبير بشكل خاص.
وبالتأكيد يشعر النظام المصري باحتمالية تفجر الأوضاع في أي وقت، ولذلك لجأ الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى التحذير من فكرة الخروج لتغيير النظام عبر ثورة.
وحاول السيسي توصيل عدة رسائل لتخويف الشعب المصري من مغبة الإقدام على هذه الخطوة، باعتبارها ستؤدي إلى دمار الشعب، ملمحا إلى أن ما حدث في 25 يناير 2011، كان بناء على إدراك وتقييم خاطئ للأوضاع حينها.
وفي هذا السياق، أخذ النظام المصري بكل أركانه على عاتقه، إطلاق العديد من الوعود بتحسن الأوضاع الاقتصادية رويدا رويدا، بيد أن التعهدات التي قطعها السيسي لم تتحقق، وفي أكثر من مرة وعد بانفراجة في الأوضاع الاقتصادية خلال 6 أشهر، ولكن دون شيء يذكر.
إذن، كل المؤشرات في مصر تنذر بموجة ثورية أو انتفاضة غضب، خاصة مع اقتراب ذكرى ثورة يناير.
هل تندلع الشرارة؟
ولكن السؤال الأهم هنا، بعد استعراض الأزمات التي تؤدي إلى اندلاع شرارة جديدة، هل يمكن أن تلحق مصر بتونس؟.
ثمة عوامل عديدة يمكن أن تحجم من مسألة خروج انتفاضة قريبة في مصر، وهي:
أولا: 30 يونيو، التجربة المصرية كانت أكثر زخما من تونس، على سبيل المثال فيما يتعلق بالتحول الديمقراطي، وترتيب الأوضاع السياسية، إذ شهدت مصر احتجاجات في 30 يونيو 2013 ضد الرئيس الأسبق محمد مرسي.
وبغض النظر عن توصيف ما حدث في هذا العام بكونه “انقلابا” أو”ثورة”، فإن التجربة في حد ذاتها، وما أعقبها من تحولات اقتصادية شديدة، أسفرت عن تردي الأوضاع المعيشية، دفعت الكثيرين لرفض فكرة التغيير للمرة الثالثة من خلال التظاهرات، خوفا من تأثيرات أكثر فداحة على الحالة المعيشية.
ثانيا: مناخ ضيق، كما أن المناخ العام الذي تعيش فيه مصر، من ناحية إحكام إغلاقه من قبل النظام الحالي، لا يبشر بإمكانية حدوث ترتيبات تتعلق بخروج تظاهرات بإمكانها تعبئة الجماهير، وحدوث قدر من التنسيق بين المعارضة لتلافي الأخطاء التي وقعت فيها خلال 25 يناير و30 يونيو.
ثالثا: نخب مستهلكة، هذه الأخطاء جعلت من الأحزاب “الضعيفة” بالأساس والنخب السياسية نخبا مستهلكة تماما لدى الشارع المصري، بما عزز من انهيار جدار الثقة فيها، خلال السنوات الماضية، لعدم قدرتها على تقديم طرح أفضل، سواء في إبراز قيادات جديدة أو فكر أو برامج حقيقية.
رابعا: عنف شديد، أحد الأسباب التي قد لا تدفع للخروج في تظاهرات، هو القمع الشديد الذي تنتهجه الأجهزة الأمنية في مصر، حيال كل أصناف المعارضة، في حين كانت الأنظار منصبة فقط على أبناء التيار الإسلامي المؤيدين للرئيس الأسبق محمد مرسي.
ولكن مع كشف سياسيات السيسي، ظهرت معارضة من داخل معسكر “30 يونيو”، سواء أحزاب أو حركات شبابية، بما دفع النظام الحالي للانقلاب عليهم تماما، وملاحقة تلك القيادات والشباب.
خامسا: لا بديل، شائع بشكل كبير لدى المصريين فكرة عدم الخروج للتظاهر خوفا من حدوث اضطرابات شديدة تؤثر عليهم، وقد يؤول الأمر إلى إسقاط النظام الحالي، دون وجود بديل جاهز يمكن الاعتماد عليه فورا لعدم تكرار الأخطاء الماضية، بما يدفع البلاد إلى الهاوية وتسوء الأوضاع أكثر.
سادسا: سيطرة المؤسسة العسكرية، كما أن سيطرة المؤسسة العسكرية على مفاصل الدولة كاملة، بعد وصول السيسي للحكم، تدفع البعض إلى الرغبة في عدم الخروج هذه المرة، خاصة مع تصدر الجيش المصري للمشهد، ما يعني أن المواجهة ستكون معه.
وهذا الأمر وفقا لهذه الآراء، قد ينطوي على مواجهات مفتوحة مع الجيش، واشتباكات مسلحة- تكرر المشاهد في سوريا على سبيل المثال- تخلف القتلى والجرحي، أو يؤدي الأمر لانكسار المؤسسة العسكرية وإضعافها، وهو ما يحاول النظام الحالي توصيله للشارع، منعا للخروج في تظاهرات ضده.
ولكن في النهاية، لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يحدث خلال الفترة المقبلة، اعتمادا على الضغوط السياسية والاقتصادية والقمع والتعذيب، ومعها يمكن- إذا تزايدت- أن تؤدي لثورة “جياع”، وهي نقطة تقلق كثيرا من المثقفين والخبراء، لأنها ستكون تحركات خارج إطار التحكم والسيطرة.
اضف تعليقا