ربما يكون مثل هذا النوع من التقارير الإعلامية هو آخر ما ترغب الولايات المتحدة وحكومتها بانتشاره بين الناس هذه الأيام، لا سيما بعد نجاحها جزئيا في التعمية على هزيمتها النكراء في الأرض الأفغانية بعودة نظام طالبان للسيطرة الكاملة على البلاد في أقل من أسبوعين من إعلان الولايات المتحدة ثقتها في جيش الوكالة الذي دربته على مدار عشرين عاما وأنفقت في سبيل تجهيزه تريليونات الدولارات.
وأمام سيل الهزيمة الواضح، صدرت الولايات المتحدة وإعلامها لافتة المرأة الأفغانية ومظلوميتها لتظهر واشنطن بوجه المُنقذ الضحية الذي يجب أن يتباكى العالم على رحيله الصادم، وأن يتضامن العالم مع الفتيات الأفغانيات اللاتي سيُقتلن على الطرقات بعد رحيل المُنقذ الأمريكي البطل المغوار.. ولكن بعيدا عن تلك السردية المفضوحة، فإن سؤالا بارزا آخر يلوح في الأفق: ماذا فعل الاحتلال الأمريكي في أفغانستان خلال عشرين عاما؟ وما ارتدادات هذا الاحتلال على المجتمع في المستوى الثقافي والعرفي؟
وبعد الانسحاب الأمريكي المريب من أفغانستان أصبح الشغل الشاغل لوسائل الإعلام الغربية البحث في مشكلة إجلاء العملاء الأفغان من المتعاونين السابقين مع الاحتلال علي مدي عشرين عامًا من بلدهم إلي أي ملاذ آمن، بدلا من حصر الخسائر البشرية والمادية الفادحة التي تحملها الشعب الأفغاني جراء احتلال أمريكي بريطاني ألماني استمر علي مدى عقدين كاملين، سام فيها الاحتلال بكل صوره الشعب الأفغاني سوء العذاب، وقتل ما يقدر بمليون أفغاني من المدنيين العزل بذريعة محاربة الإرهاب، بخلاف الثروات الهائلة التي استولت عليها قوات الاحتلال من مناجم الزمرد واليورانيوم والليثيوم وغيرها من الموارد المعدنية النادرة التي لا غني عنها في الصناعات الإلكترونية والعسكرية.
تحول الأمر إلي تصوير فترة الاحتلال بالجنة في مقابل ما ينتظر الأفغان من جحيم طالبان التي تعهدت بعدم محاسبة المتعاونين مع الاحتلال، وانتفاء رغبة الانتقام لديها والبدء بصفحة جديدة تعطي فيها للمرأة الأفغانية كافة حقوقها وحرياتها في التعلم والعمل والمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية كأي امرأة في العالم، كما جاء علي لسان المتحدث باسم حركة طالبان غداة سيطرتها علي زمام الأمور في أفغانستان تعهدت حركة طالبان في أول مؤتمر صحفي لها عقدته الثلاثاء الماضي في العاصمة الأفغانية كابول، إنها لن تسمح بأن تكون أفغانستان ملاذًا آمنًا للإرهاب، ووعدت باحترام حقوق المرأة وفق الشريعة الإسلامية.
وقال المتحدث باسم الحركة، ذبيح الله مجاهد، إن جماعته تعمل بنشاط على تشكيل الحكومة و”سيعلن عنها بعد استكمالها”. وأضاف: ستكون المرأة نشطة للغاية في مجتمعنا وسيسمح لها بالعمل في إطار قوانيننا الإسلامية.
ولدى سؤاله عن المتعاقدين والمترجمين الذين عملوا مع قوات الاحتلال الغربية، قال مجاهد إنه لن يتم التعامل مع أحد بالانتقام وإن الجماعة تعفو عن الجميع لصالح الاستقرار والسلام في أفغانستان، مضيفا أن طالبان وعدت باحترام دور الصحافة، وتتعهد بأن الإعلام الخاص يمكن أن يستمر في أن يكون حرا ومستقلا، لكنه حذر من أن الإعلام يجب ألا يعمل ضدنا.
لكن، وبحسب المحلل السياسي عبد الخالق صبحي، في دراسته المنشورة بصحيفة الأهرام المصرية، فقد تجاهل المحللون الغربيون كل هذه التعهدات وصبوا جل اهتمامهم علي مصير بضعة آلاف من العملاء، في مقابل تجاهلهم لمصير شعب بأكمله ذاق من ويلات الاحتلال ما لم يذقه غيره.
وبحسب الباحث، فقد تضمنت التغطية الإعلامية الغربية التي تمت صياغتها بعناية شديدة، تزييفا كاملا للوقائع التي شهدتها أفغانستان علي مدي عشرين عاما علي يد المحتل من اضطهاد وقتل وتشريد وتعذيب بأبشع السبل والوسائل وأعمال سلب ونهب مارستها قوات الاحتلال في غيبة للقانون والضمير الدولي ضد الشعب الأفغاني البائس، وتصوير بشع لواقع الأيام المقبلة علي يد حكم طالبان التي يبدو أنها تعلمت الدرس ووعته جيدا مع إعلانها وتعهدها بعدم تكرار أخطاء الماضي.
وبدلا من فتح كشف حساب للمحتل عما ارتكبه من جرائم بحق الشعب الأفغاني، تقلب وسائل الإعلام الغربية الوضع بالكامل لتحول أنظار العالم كله إلي واقع افتراضي لم يحدث بعد لتطوي به صفحة امتلأت عن آخرها بالانتهاكات غير الإنسانية من جانب قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية وغيرها من قوات الاحتلال الغربية الحليفة بحق الشعب الأفغاني، مع ما طال الجارة الباكستانية من اعتداءات عسكرية بذريعة تعقب فلول الإرهاب الفارة من أفغانستان.
وبحسب الباحث، يمضي حلف شمال الأطلسي (الناتو) في تأكيد الصورة المزيفة الجديدة التي رسمها الإعلام الغربي بتحذير طالبان من تحويل أفغانستان إلي أرض خصبة للإرهاب مرة أخرى بقوله أنه رغم انسحابه إلا أنه لا يزال لديه القوة العسكرية، القادرة على ضرب أي مجموعة إرهابية من مسافة بعيدة، وكأن ما مارسه الناتو من إرهاب ضد الشعب الأفغاني كان نزهة لقواتها!
لكن بعيدا عن ذلك، فإنه ما يزال الوقت مبكرًا لتقييم التجربة الأفغانية تحت حكم طالبان بعد انسحاب قوات الاحتلال، وما إذا كانت ستعود إلي سابق عهدها من الصراع علي السلطة وإيواء العناصر الإرهابية من جديد أم أنها ستلتزم بما تعهدت به أمام المجتمع الدولي، إلا أن المؤكد أن ما تبثه وسائل الإعلام الغربية ينطوي علي مغالطات فادحة لا تقل في بشاعتها عن الاحتلال نفسه بكل ما شهده العالم من تجاوزات وانتهاكات ترقي لجرائم الحرب.
اضف تعليقا