العدسة – أحمد عبدالعزيز

باتت مصر -هبة النيل كما يطلق عليها المؤرخ الكبير هيرودوت- على وشك مواجهة أزمة مياه طاحنة لأول مرة في تاريخها الممتد لآلاف السنين، بعدما سجل النظام السياسي فشلا ذريعا وفاضحا يصل إلى حد التواطؤ في أزمة سد “النهضة” الذي قاربت أثيوبيا على الانتهاء منه.

فقد أعلن وزير الري والموارد المائية المصري محمد عبد العاطي، في منتصف الشهر الماضي، رسميا، فشل المفاوضات مع إثيوبيا والسودان بهدف التوصل إلى اتفاق على أنسب آلية لملء وتشغيل السد الجديد دون الإضرار بحصة مصر، حيث عجزت القيادة السياسية الحالية، والتي تعاني قصورا كبيرا في قدراتها على التفاوض، في التوصل لاتفاق يحفظ لمصر حقوقها.

سد “النهضة”

فشل الاتفاق يعني أن مصر باتت مهددة بالعديد من الآثار السلبية المحتملة للسد على نصيبها من مياه النيل، حيث أنها تمتلك سنويا 55.5 مليار متر مكعب طبقا لاتفاقيتي سنة 1929 و1959 التي وقعتها مع بلدان حوض النيل.

ويتعاظم الخطر الذي يهدد مصر خلال السنوات القليلة القادمة، عندما نعلم أن النيل يزود البلاد بحوالي 97% من إجمالي احتياجاتها المائية، في حين أن نسبة 3% المتبقية يتم توفيرها من جراء سقوط أمطار قليلة على السواحل الشمالية وفي شبه جزيرة سيناء بالإضافة إلى المياه الجوفية غير المتجددة.

وأمام هذه الأزمة وذلك الفشل الذريع، بات على الحكومة المصرية العاجزة سرعة التحرك لإيجاد حلول عاجلة لمواجهة نقص المياه المتوقع في ظل اقتراب أثيوبيا من الانتهاء بشكل كامل من بناء السد وبدء تشغيله.

” عبد الفتاح السيسي “

 

مشاريع “الفنكوش”

ومن المحاولات التي أعلن النظام عن أنه بدأ فيها، كحل مؤقت يمكن الاستناد إليه لتعويض النقص المتوقع في المياه، هو ما أعلن عنه رئيس الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة المصرية كامل الوزير -وهو الشخص الموكل لإنشاء المشاريع باسم القوات المسلحة التي استولت على اختصاص الكثير من الوزارات الأخرى في مصر، خاصة إذا كانت هذه الاختصاصات تدر أرباحا طائلة- حيث كشف الوزير إنه يستعدون لإنشاء أكبر محطة لتحلية المياه في العالم بمنطقة العين السخنة، بطاقة إنتاجية تبلغ 164 ألف متر مكعب من المياه يوميا، بالإضافة إلى ثلاث محطات مياه عملاقة أخرى كل منها سعة 150 ألف متر مكعب يوميا، في منطقة الجلالة شرق محافظة بورسعيد ومدينة العلمين الجديدة.

” كامل الوزير “

وزعم الوزير حينها، أن مجموع ما يتم تحليته من مياه البحر حاليا وصل إلى مليون متر مكعب يوميا، معربا عن توقعاته بزيادة الطاقة الإنتاجية من المياه المحلاة مستقبلا، بالإضافة إلى تنفيذ محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي والزراعي بطاقة إنتاجية تصل إلى 5 ملايين متر مكعب يوميا في شرق قناة السويس.

إلا أن كل ذلك يظل مجرد تصريحات غير أكيدة، خاصة إذا ما علمنا أن الوزير نفسه كان هو المسؤول عن العديد من المشاريع التي روج لها النظام المصري بشكل كبير إلا أنه اتضح في النهاية أنها مجرد فقاعات دعائية “فنكوش” لمحاولة تجميل صورته، مثل مشروع استصلاح المليون ونصف فدان، الذي كشفت تقارير إعلامية أن عملية تدشينه كانت أشبه بمسرحية زائفة استخدم فيها شخصيات لأداء أدوار فلاحين وأصحاب مواشي!

من جانبها، أفردت صحيفة “المونيتور” الفرنسية تقريرا مطولا، تحدثت فيه عن المستقبل المائي لمصر في ظل الأزمة الأثيوبية، وعن كيفية إدارة القاهرة لملفها المائي خلال السنوات المقبلة.

ونقلت الصحيفة عن أستاذ الأراضي والمياه بكلية الزراعة جامعة القاهرة، الدكتور نادر نور الدين، توقعاته بأن يؤدي ملء بحيرة سد النهضة، إلى خصم 30 مليار متر مكعب سنويا من المياه المتدفقة إلى مصر والسودان، وذلك في حال إصرار أديس أبابا على ملء البحيرة في مدة 3 سنوات.

وأوضح تفصيلا، إن سعة البحيرة تصل إلى 74 مليار متر مكعب تضاف إليها 5 مليارات أخرى سيتم فقدانها بالتبخير داخل البحيرة سنويا، فضلا عن 10 مليارات أخرى ستفقد بالرشح العميق والجانبي للسد، ما يعني أن المياه التي سيستهلكها السد الأثيوبي سوف تبلغ 90 مليار متر مكعب سنويا!

وأضاف أستاذ الأراضي والمياه، إن هناك حل وحيد لتقليل هذه النسبة، وهو عبر إقناع أثيوبيا بالموافقة على طلب مصر زيادة فترة الملء الأولى للسد إلى 6 سنوات، ما يعني أن تقل المياه التي ستفقدها دولتا المصب إلى حوالي 15 مليار متر مكعب سنويا، توزع بنسبة 5% تتحملها السودان التي تصل حصتها إلى 18.5 مليار متر مكعب سنويا مقابل 10% تتحملها مصر.

ومن الصور السيئة التي يمكن أن تواجهها مصر، أنه في حال فشلها في تجاوز الخلاف على سنوات الملء الأولى للسد، حيث ستتعرض لآثار مستدامة تتمثل في فقدانها ما لا يقل عن 12 مليار متر مكعب من المياه سنويا، بحسب نور الدين.

 

حجم الكارثة

 

ولكن يبدو أن خطورة الوضع حتى الآن لا تظهر بشكل كامل لمن يطالع هذه الكلمات، فربما يستشعر الأزمة، إذا ما علم أن مصر ستفقد 200 ألف فدان مقابل كل مليار متر مكعب من المياه ستقل عن حصتها، حيث أن الفدان الواحد يحتاج إلى 5 آلاف متر مكعب من المياه سنويا.

الرقم السابق كشفه مستشار وزير الموارد المائية والري السابق ضياء الدين القوصي لـ”المونيتور”، الذي أكد أن مصر تستخدم نحو 85% من حصتها في نهل النيل للأغراض الزراعية، بينما تستهلك الـ15 المتبقية للأغراض المنزلية والصناعية.

الأزمة تتكشف أيضا بشكل أعمق وأخطر، عبر تصريحات رئيس قسم الموارد الطبيعية في معهد الدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، عباس شراقي، الذي لفت إلى أن مصر حاليا تقع تحت خطر الفقر المائي، حيث يصل نصيب الفرد من المياه سنويا إلى 560 مترا مكعبا في الوقت الذي يحدد نصيب الفرد عالميا بألف متر مكعب، هذا مع الوضع في الاعتبار أن نصيب مصر 55 مليار متر مكعب، فماذا سيكون وضع مواطنيها عندما تقل هذه النسبة؟ بكل تأكيد ستتعرض دولة نهر النيل إلى العطش!

شراقي أوضح أن مصر بناء على هذه البيانات، في حاجة إلى 400 متر مكعب من المياه الإضافية لكل فرد، لسد حاجاته، لا أن تقل النسبة الضئيلة التي يحصل عليها فعليا.

ويرى أستاذ الموارد الطبيعية، أن تحلية مياه البحر لن تحل الأزمة المائية الحالية أو المتوقعة بعد بناء سد النهضة، مؤكدا أن تحلية المياه ستستخدم فقط في الأغراض الصناعية والسياحية، مضيفا أن العجز المائي في مصر ليس في مياه الشرب ولكن في المياه المخصصة للزراعة، لذا يتعين على الدول تنفيذ خطة لخفض نسبة مياه النيل المستخدمة في الزراعة إلى 70%.

على المصريين الآن أن يشعروا بالقلق العميق على مستقبلهم المائي، مهما ادعى النظام من سعيه إلى حلول، فحتى لو صحت هذه الادعاءات، فإنها تظل حلول جزئية صغيرة جدا لا تناسب الأزمة الكبيرة التي يتوقع أن يواجهها المصريون، بالإضافة إلى أن التشكيك في نوايا النظام نفسه يظل قائما، حيث لم يبد النظام أي شعور حقيقي بالقلق أثناء التفاوض حتى يتخذ الأمور بشكل أكثر جدية، ما يعني عدم وعيه بالأزمة أو قل عدم اكتراثه من الأساس بمستقبل البلاد في ظل انشغاله بعمليات النهب الموسع التي ترعاها الدولة وتنميها.