توقيع اتفاقية صلح مع السعودية في العلا، وتخفيض انتاج النفط لدعم المنتجين الآخرين… هكذا بدأ بن سلمان العام الجديد في إشارة إلى رغبته في تحسين علاقاته الخارجية والتوقف عن صناعة مزيد من الأعداء كما كان يفعل في السنوات الماضية.
القرارات الأخيرة التي اتخذها النظام السعودي، والتي وصفها بأنها “بادرة حسن نية” جعلت الحاكم الفعلي للبلاد يتصدر عناوين الأخبار مرة أخرى، ولكن هذه المرة باعتباره صانع للسلام كما يروج لنفسه، أو كما تبدو المعاني الظاهرية للأمور.
البعض يشكك في السبب الحقيقي وراء قرار إنهاء الخلاف مع قطر، والذي استمر لأكثر من ثلاث سنوات بقيادة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، حيث رجح البعض أن هذه الخطوة تهدف إلى تهدئة الأوضاع مع إدارة جو بايدن الذي تعهد بأن يجعل المملكة “منبوذة”، هذا بالإضافة إلى التهديدات التي تشكلها إيران مع ضعف الاقتصاد السعودي، جميعها عوامل ساهمت في تغيير حسابات الأمير الذي يبدو أنه أقتنع أن: المصالحة أفضل من الصراع.
وهكذا، يوم الثلاثاء، نقلت وسائل الإعلام المختلفة، التي أرسلت مندوبيها إلى مدينة العلا بشمال غرب السعودية، مشهد عناق الأمير محمد وحاكم قطر والذي كان إعلاناً لإنهاء القسام.
بعد ساعات من هذا المشهد، أعلنت المملكة العربية السعودية أنها ستخفض إنتاج النفط بمقدار مليون برميل يوميًا لدعم الأسعار لزملائها المنتجين – وهو التوجيه الذي قال وزير الطاقة إنه جاء مباشرة من ولي العهد وأدى إلى ارتفاع أسهم شركات الطاقة الأمريكية، ليشدد الأمير بهذه التحركات على حضوره العلني بنبرة داعية للصلح والسلام – على الأقل في الوقت الحالي.
الجدير بالذكر، أنه ومنذ صعود الأمير البالغ من العمر 35 عامًا إلى السلطة في عام 2015، دخلت أكبر دولة مصدرة للنفط الخام في العالم، في سلسلة من المشاريع أو المغامرات -إن جاز التعبير- عالية المخاطر بشكل لافت للنظر: حرب في اليمن، وقطع العلاقات جزئياً مع كندا، وشن حرب أسعار للنفط مع روسيا، ومناوشات حرب تجارية مع تركيا.
نهج جديد
في تعليقه لوكالة بلومبرغ على قرارات بن سلمان الأخيرة، وصف دبلوماسي مقيم في الخليج، طلب عدم نشر اسمه، الأمير محمد بأنه يحاول تعزيز نفوذه باستغلال كافة الفرص الممكنة، من جهة، يحاول استثمار الفترة المتبقية من ولاية إدارة دونالد ترامب التي كانت من أقرب الحلفاء للمملكة، وقد بدا ذلك بصورة واضحة من خلال الاعتماد على رغبة المستشار الخاص غاريد كوشنر، الذي حضر القمة الخليجية، لعرض نفسه أيضًا كصانع سلام.
ومن جهة أخرى، يحاول بن سلمان أن يصنع لنفسه صورة القائد لا يستطيع بايدن أن ينفره أو يتجاهله، خاصة من خلال تبني هذه المبادرات التصالحية.
قالت كارين يونغ، الباحثة المقيمة في معهد أمريكان إنتربرايز في واشنطن العاصمة، إن ما يفعله بن سلمان يعتبر: “جهد لأخذ دور قيادي، لمحاولة الحصول على بعض المزايا الدبلوماسية مع إدارة بايدن القادمة”.
كان ترامب مقربًا من المملكة العربية السعودية، حيث قام بأول رحلة خارجية له كرئيس هناك، وقاد موقفًا متشددًا ضد عدوها اللدود إيران، كما بذل كل ما في وسعه لحماية الأمير محمد من تداعيات مقتل الكاتب الصحفي في واشنطن بوست جمال خاشقجي عام 2018 على يد عملاء سعوديين في إسطنبول.
صراعات مكلفة
لا يقتصر الأمر على إرضاء إدارة بايدن فقط، النغمة الجديدة التي يقودها ولي العهد السعودي يتحكم بها عدد من العوامل الأخرى، أبرزها التحديات التي تواجهها المملكة بعد تراجع سمعتها نتيجة سلسلة من الفضائح والجرائم التي ارتكبها بن سلمان، والتي فاقمها جائحة فيروس كورونا التي تسببت في أزمة اقتصادية ومالية لم تشهدها البلاد من قبل.
في قمة الثلاثاء، غاب الملك سلمان وكان الأمير محمد هو النجم، وهو أمر مفاجئ، إذ غاب بن سلمان عن المشهد في العام الماضي، لكنه قرر أن يظهر هذا العام محاولاً إصلاح صورته، وللترويج لخطته لتحويل العلا -المدينة التي عقدت بها القمة- إلى وجهة سياحية عالمية.
وعقب الاجتماعات اصطحب بن سلمان أمير قطر الشيخ تميم بن حمد في جولة في سيارة لكزس بيضاء قادها بن سلمان شخصياً.
تصور هذه الصورة كان شبه مستحيلاً قبل بضع سنوات، حيث كان أقرب مستشاري الأمير ينتقدون قطر بانتظام، ويتهمونها بزعزعة استقرار الخليج والمنطقة بأسرها، وهي الاتهامات التي نفتها الدوحة باستمرار.
خفض إنتاج النفط والنفوذ العالمي
قال هشام الغنام، أستاذ العلوم السياسية وزميل مركز الخليج للأبحاث، إن الديناميكيات الإقليمية كانت أساسية في دفع عجلة إصلاح العلاقات، بما في ذلك رغبة المملكة العربية السعودية في تركيز جهودها لمواجهة إيران، خاصة بعد تصريحات بايدن بأنه سيتطلع إلى إعادة الانضمام إلى الاتفاق النووي مع إيران الذي انسحب منه ترامب، ما دفع السعودية للبحث عن حلفاء جدد وإصلاح علاقاتها بجيرانها العرب.
وأضاف الغنام “السعودية تريد أن تكون حكما في الخلاف بين دول الخليج بدلا من أن تكون جزءا من هذه الصراعات”.
خطوة خفض انتاج النفط سلطت الضوء كذلك على التغيير الذي طرأ على السياسة النفطية للمملكة العربية السعودية في عهد الملك سلمان وولده الأمير محمد، فبعد عقود من الافتخار بوضع النفط فوق السياسة، أصبح القصر الملكي أكثر تدخلاً، وأصبحت مكائد الطاقة فيه أكثر تسييسًا.
ولهذه الغاية، وصف الأمير عبد العزيز بن سلمان -وزير الطاقة والأخ الأكبر غير الشقيق لولي العهد- خفض الإنتاج بأنه خطوة “سياسية سيادية” وليست “فنية”.
هذه الخطوة، رغم أنها تجعل السعودية تقود عالم النفط وتظهرها وهي تساعد الآخرين الذين يعانون من انخفاض أسعار النفط مثل العراق، ستكلف المملكة 3 مليارات دولار شهريًا من عائدات النفط المفقودة، وفقًا لحسابات بلومبيرغ نيوز، لكن تأثيرها العالمي كان فوريًا، حيث قفزت أسعار النفط الخام إلى أعلى مستوى في 10 أشهر فوق 50 دولارًا للبرميل، كما استفادت منه عدد من الدول، مثل روسيا التي زادت من انتاجها للمرة الأولى، وبعد أقل من عام من حرب الأسعار.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا