منصور عطية

ربما يدرك كثيرون أنَّ الأزمة الخليجية الحالية ليست إلا نتاجًا لتاريخ طويل من العداء الذي تُكنّه دول الحصار، وخاصة الإمارات، لقطر، كما أنه ليس خافيًا على أحد مظاهر الحرب العابرة للقارات التي تشنها أبو ظبي ضد جماعة الإخوان المسلمين.

ولعل الارتباط الوثيق بين الدوحة والإخوان– وفق الاستراتيجية الإماراتية– دفعها لتعلن الحرب عليهما باعتبارهما العدو الأكبر في طريق الاستقرار الداخلي المتزامن مع عمليات توسيع النفوذ الإقليمي والدولي لأبناء زايد.

“ويكيليكس”.. ما خفي أعظم

موقع ويكيليكس كشف أنّ رسائل دول حصار قطر في الأزمة التي اندلعت قبل عام حملت الخطاب المنسوب لولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد نفسه، كما كشفت عنها وثائق ويكيليكس المسربة في عامي 2010 و 2011.

وبحسب التقرير الذي نشره “أندرو شابيل” في “الجزيرة الإنجليزية”، فإنّ المواد الكثيرة التي تضم اتصالات من السفارة الأمريكية في أبو ظبي ما بين 2004 – 2010 تؤكد أن الإمارات كانت القوة المحركة في الحملة ضد قطر وقناة “الجزيرة”، وكذلك في القمع ضد الإخوان المسلمين.

وتكشف البرقيات أنَّ دوافع الإمارات في حملتها ضد قطر والإخوان لم تكن كلها عن الأمن، بل رغبة بن زايد في سحق المعارضة الداخلية في بلاده، وأن بن زايد وإخوته اهتموا وبشدة بـ”عدو أبدي” آخر، وهو جماعة الإخوان المسلمين.

وتقول “كورتني فريير” مؤلفة كتاب “الإسلامية الريعية: تأثير الإخوان المسلمين على ملكيات الخليج”: “تكشف البرقيات المدى الذي ذهب إليه بن زايد في الخلط بين الجماعات الإسلامية الراديكالية العنيفة والحركات السياسية المعتدلة مثل الإخوان المسلمين”.

وورد في برقية من برقيات عام 2007 قوله: “شكرًا لله على وجود حسني مبارك”، متوقعًا فيها فوز الإخوان لو عقدت انتخابات في مصر.

وحسب برقية تعود إلى يناير 2004 تحدث المسؤولون الأمريكيون عن الطريقة التي تحدث بها بن زايد عن اكتشافه مؤيدين للإخوان في الجيش، وكيف عرضهم لعملية غسيل دماغ معاكسة.

وفي برقية أخرى تعود إلى أبريل 2006 قال: إنّ “التحدي هو كيفية التخلص منهم (الإخوان) بطريقة لا يعودون فيها مرة أخرى”، وقال: “استخدمنا مكنسة هوفر لتنظيفهم”، حسب برقية أخرى تعود إلى يوليو 2007.

وبعد دعم أبو ظبي الغزو الأمريكي للعراق حمّل بن زايد قناة “الجزيرة” في الدوحة مسؤولية التأثير السلبي على الرأي العام العربي، وشجّع الولايات المتحدة على قصف مقرها.

وبحلول عام 2009 أصبح “بن زايد” أكثر شكًا بالقناة وقطر؛ حيث تحدث بعبارات قوية مع السفير الأمريكي في أبو ظبي، ريتشارد أولسين، وأحد العاملين معها، وطلب منهما التوقف عن تسجيل الملاحظات، وأن يستمعوا لكلامه فقط.

وحسب البرقية التي تعود إلى فبراير 2009 اعتقد بن زايد أن قطر خانت مجلس التعاون الخليجي عندما بدأت بالتقارب مع إيران، وقال إنها “جزء من الإخوان المسلمين”.

وفي البرقية نفسها جمع بن زايد بين حماس وحزب الله وأسامة بن لادن باعتبار تنظيماتهم “تهديدًا عابرًا للقارات تتصرف كحركات وطنية”.

لماذا الحرب؟

منذ ظهوره السياسي عام 2003، بتعيينه نائبًا لولي عهد أبو ظبي، بدا أن بن زايد يحمل طموحًا سياسيًا كبيرًا، لم يتعلق فقط بأن يصبح الحاكم الفعلي للإمارات، ولكن تعلق أيضًا برغبته في تعظيم مكانة ونفوذ الدولة إقليميًا ودوليًا، وتطوير أدواتها في السياسة الخارجية.

وعلى مدار السنوات الماضية، حاول بن زايد الحفاظ على مركزية تحالف بلاده الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، بالتوازي مع سعي دؤوب لتشكيل لوبي إماراتي اقتصادي وسياسي قوي في واشنطن يضمن استمرار هذ التحالف بل ويؤثر في صنع سياسة أمريكا من خلال رجل بن زايد في واشنطن، وسفير الإمارات هناك، يوسف العتيبة.

إذن سعى بن زايد بشكل واضح إلى جعل الإمارات مركز صناعة القرار السياسي في المنطقة وصاحبة النفوذ الأول، وبالتالي، ناصب العداء لكل الأطراف التي حاولت زعزعة هذا النفوذ، أو منافستها في هذا الصدد، بغضّ النظر عمّا إذا كانت الإمارات تحمل عداء أيديولوجيا لهذه الأطراف أم لا.

لهذا السبب ناصب محمد بن زايد العداء للإخوان المسلمين، الذين ظلوا خطرًا محتملًا على مستقبل الحكم في الإمارات، وتوهّج هذا العداء بعد الربيع العربي ووصولهم إلى سدة الحكم في أكثر من دولة عربية.

أما قطر، ونتيجة سعيها لتعظيم نفوذها، ودوائر تأثيرها الإقليمي، ودعمها لجماعة الإخوان المسلمين عقب صعودها السياسي، فرأى بن زايد أنها باتت أخطر مصادر التهديد على نفوذه ونفوذ بلاده ومصالحها في المنطقة، وذلك منذ اليوم الأول لثورات الربيع العربي.

تاريخ طويل من العداء

ورغم أنّ ملامح هذه الحرب ضد جماعة الإخوان المسلمين لم تتضح معالمها إلا مع اندلاع ثورات الربيع العربي، إلا أن جذورها تمتد إلى سنوات تالية من تأسيس دولة الإمارات ذاتها في ستينيات القرن الماضي.

في هذه الفترة شهدت الإمارات عودة الطلاب الدارسين في مصر حاملين أفكار جماعة الإخوان المسلمين، مدفوعين بحلم جماعة تنشئ مؤسساتها وتغرس بذور تربيتها الفكرية في المجتمع الوليد، ووجدت أرضًا خصبة مكّنتها من تشكيل إحدى أقدم الجمعيات الأهلية في الإمارات-حتى قبل اتحادها- تحت اسم “جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي”.

دخل “الإصلاحيون” في الحكومتين الأولى والثانية التاليتين لإعلان اتحاد الإمارات، لكنهم برزوا في الحكومة الثالثة عندما عاد سعيد سلمان إليها كوزير للتربية والتعليم، ورئيس لجامعة الإمارات بعد تأسيسها بسنتين عام ١٩٧٩، وبدأت السيطرة على إدارة المناهج في البلاد.

حيث تولى الرئيس السابق لفرع جمعية الإصلاح برأس الخيمة- والمعتقل منذ عامين ونصف في قضية “الإمارات٩٤”- الشيخ “سلطان بن كايد القاسمي” إدارة المناهج في الدولة لسبع سنوات حتى نهاية عام ١٩٨٣، أصدروا خلالها ١٢٠ مقررًا دراسيًا.

بدأت قوة “الإصلاحيين” في الازدياد، وتنازلت الجمعية عن المسار السياسي لصالح الاجتماعي الذي دخلته من بوابة التعليم، وأصبحوا في الثمانينيات بلا منافس في ساحة التعليم العام وإدارة المناهج والتأليف، وفي الاتحادات الطلابية.

وكان الصِّدام الأول عام 1987 عندما عارض الإصلاحيون مشروع التعليم الأساسي، والذي اتضح فيما بعد أن الهدف الأول منه هو إبعادهم عن المناهج، لتأتي الضربة الأولى من الشيخ زايد بوقف اللسان الرسمي للجمعية مجلة “الإصلاح” لستة أشهر، لترجع أكثر هدوءًا في محتواها.

رغم هذا الهدوء، عزم الأمراء على مواجهة الإصلاحيين لما لمسوه من خطر قد يهدِّد عروشهم في حال تُرك لهم الحبل على الغارب، فكانت الضربة الثانية عام 1994 بحل مجلس إدارة جمعية “الإصلاح” كاملًا، ثم قلصت أنشطة فروع الجمعية الداخلية والخارجية، وقامت الحكومة بإسناد الإشراف عليها ككل إلى وزارة الشؤون الاجتماعية.

في عام ٢٠٠٣ بدأت عملية نقل واسعة، داخل وزارة التربية والتعليم، لأكثر من 170 من أعضاء جمعية “الإصلاح”، بررها المسؤولون الإماراتيون بأنها تأتي “ضمن رؤية إستراتيجية تهدف إلى نقلة كبرى في التعليم العام، تتماشى مع التحولات الكبيرة الاقتصادية والثقافية التي تمر بها البلاد منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي.

قاد هذه العملية وما تلاها الابن المتخرج من أكاديمية ساندهيرست العريقة “محمد بن زايد”، وظهرت فيما بعد نواياه الحقيقية للتعامل مع هؤلاء، وتحديدًا بعد تأسيسه “مجلس أبو ظبي للتعليم” عام ٢٠٠٥.

تفرغ “بن زايد” بنفسه لهذه المعركة، وبدا وكأنه يخوضها بمناصبه الثلاثة معًا، كولي للعهد وكنائب وزير الدفاع وكرئيس مجلس أبو ظبي للتعليم، وبدا كأن أبوظبي وأميرها أخذوا على عاتقهم مواجهة “الإخوان المسلمين” وتقليص نفوذهم، والسماح للتيارات الإسلامية الأخرى بالظهور، مثل: الصوفية وجماعة التبليغ والدعوة، والسلفية العلمية.

طلب بن زايد بشكل رسمي من قيادات الإصلاح حل الجمعية بأكملها والعمل ضمن مؤسسات الدولة، لكن الجماعة رفضت فبدأ بن زايد حملة جديدة من التصعيد تمثلت عام ٢٠٠٦ بإبعاد عشرات المعلمين، رد عليها “الإصلاحيون” بتجمعات احتجاجية وضغط إعلامي مضاد.

تسبب الربيع العربي في موجة حماس للإصلاحيين دفعتهم إلى إصدار وثيقة وقع عليها ١٣٣ أكاديميًا وحقوقيًا دعوا فيها إلى انتخابات مباشرة للمجلس الوطني الاتحادي، ومنحه صلاحيات تشريعية، الأمر الذي أعاد لأذهان بن زايد صعود الإصلاحيين في بلاده في السبعينيات والثمانينيات.

ردّت السلطات باعتقال العشرات ثم محاكمة جماعية عام 2012 لـ94 معارضًا منهم منتسبون لجماعة “الإصلاح” الكيان الإماراتي المتهم دومًا بالارتباط بجماعة “الإخوان المسلمين” في القضية المعروفة بـ “الإمارات 94″، وجرت المحاكمة بشكل شبه صوري، لتقضي بالسجن على الجميع لفترات تراوحت بين 7 و15 عامًا.

وخرج بن زايد في حربه من دائرة المحلية، ليبرز عداوة شخصية مؤكدة مع كل ما يمثّله مصطلح “الإسلام السياسي” بوضع قائمة من ٨٣ حركة “إسلامية” وعربية وعالمية، مدنية وعسكرية، في قائمة “الإرهاب”.

ثم وضعت الإمارات الغنية ثقلها المالي وراء الثورات المضادة وإفشال مشاريع وحركات الإسلام السياسي، فساندت إطاحة الجيش المصري بالرئيس الأسبق محمد مرسي ابن جماعة الإخوان، وفي ليبيا دخلت الإمارات بكل ما لديها لصالح الجنرال خليفة حفتر الذي استلم زمام الثورة المضادة هناك، كما تدخلت في اليمن لصالح الثورة المضادة أيضًا خشية وصول “الإصلاح” للحكم.

معتمدًا على مزيد من النفوذ المالي والسياسي، سعى لتصنيف “الإخوان المسلمين” كحركات إرهابية في كل من أمريكا وبريطانيا، كما وصل به الأمر أخيرًا إلى دعم الانقلاب العسكري في تركيا؛ إذ يرى فيها عدوًا سياسيًا كونها امتدادًا لمشروع “الإسلام السياسي” لخصومه في المنطقة.