يبدو أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ماضٍ في تغيير تركيبة السلطة التقليدية في المملكة خلال الفترة الحالية، من خلال اتخاذ سلسلة من القرارات الدخيلة على المجتمع السعودي.

بن سلمان الذي يمهد لنظام حكمه رغم وجود والده الملك سلمان بن عبد العزيز على قمة هرم السلطة، يحاول إجراء التغيير الآن قبل أن يصبح ملكا، رغبة في عدم إحداث قلاقل خلال انتقال السلطة.

وليس خفيا وجود أخبار تتحدث عن تنازل سلمان لنجله عن الحكم دون انتظار الوصول إلى العرش الملكي بعد وفاة والده، وهو ما يوضح طريقة التغيير الراديكالي العنيف لبنية السلطة والتركيبة التي استمرت لعقود طويلة من خلال ما اعتقد الكثيرون أنه “زواج كاثوليكي” بين آل سعود وآل الشيخ.

فما هى حدود هذا التغيير؟ وإلى ماذا يطمح بن سلمان؟ وما هى تأثيرات هذا التلاعب في بنية المجتمع السعودي؟

فصل الأئمة

استراتيجية محمد بن سلمان لتكريس منظومة حكمه الجديد التي تعتمد بشكل أساسي على تغيير تركيبة الحكم السائدة، ومحاولة تهميش دور “الفكر الوهابي” المتمثل في أسرة آل الشيخ التي تهيمن على كل ما يتعلق بالدين، اعتمدت على شقين أساسيين.

الشق الأول هو اتخاذ سلسلة من القرارات التي تغير الهوية السعودية بالشكل الذي يقف أمامه مشايخ السلفية الوهابية عاجزين عن معارضته بشكل كامل على الأقل علنيا، بل وإظهار تأييد لهذه الخطوات من خلال التراجع عن فتاوى سابقة لكبار مشايخ السعودية.

أول مظاهر هدم هذه السيطرة الوهابية هو الاتجاه المتسارع إلى إلغاء نظام “الولاية على المرأة” واتخاذ قرارات من شأنها إظهار أن السعودية تتجه إلى “الإصلاح” وهو ما سيكون له مردود على المستوى الدولي.

سلمان العودة و عوض القرني

الشيخين سلمان العودة و عوض القرني

أما الشق الثاني، والذي يعكس ليس فقط عدم رغبة في وجود أي معارضة لقرارات محمد بن سلمان في شخص والده الملك، ولكن رسالة إلى الخارج بـ “تحرر المملكة من الفكر الديني”، هو الاعتقالات التي نالت عددا كبيرا من المشايخ والدعاة والأكاديميين.

ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ أعلن وزير الخارجية عادل الجبير، أن السلطات السعودية فصلت عدة آلاف من الأئمة من العمل في المساجد بعد ثبوت نشرهم التطرف.

الجبير واصل حديثه بالقول: “لن نسمح بنشر أيديولوجية الكراهية، ولا تمويل ذلك النوع من الفكر”.

عادل الجبير

عادل الجبير

ولنا هنا وقفة تتعلق بمعالم هذا الفكر “المتطرف” الذي تحدث عنه الجبير، فهل كان يقصد فكر التكفير وحمل السلاح؟ وإذا كان يقصد ذلك لماذا لم يتم الإعلان عن ذلك صراحة من قبل بشكل رسمي؟ ثم لماذا لم يتم القبض على هؤلاء الأئمة فور علم السلطات بالترويج للفكر المتطرف؟.

كل هذه التساؤلات هامة في فهم التحولات التي تشهدها السعودية في مواجهة “الفكر المتطرف”، ولكن الإجابات عليها تقود مباشرة إلى أنه كان يقصد “السلفية الوهابية”.

إذن هناك ردة سعودية رسمية تجاه “الفكر الوهابي” في المملكة… ربما تصل إلى أبعد من مجرد التغييب والاعتقال.

تغيير تركيبة السلطة

قامت السعودية في طور تأسيس دولتها الأولى وتحديدا خلال عام 1745، على تحالف بين أمير الدرعية محمد بن سعود و محمد بن عبد الوهاب، بعد توقيع ما يعرف بـ “ميثاق الدرعية“، إذ اتفق الطرفان على نشر الدين الإسلامي الصحيح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فكانت هذه أول لبنة في تقاسم السلطة بين آل سعود وآل الشيخ –أحفاد محمد بن عبد الوهاب”، هذا الأمر استمر حتى وقتنا هذا من خلال تحكم تام من آل الشيخ للقضاء وشؤون الدعوة، في مقابل إدارة الدولة لآل سعود.

بن سلمان

بن سلمان

ولكن يحاول محمد بن سلمان تغيير هذه المعادلة ليس لناحية الإقصاء التام لآل الشيخ، ولكن من خلال تغيير تركيبة السلطة وصياغة علاقة جديدة بين الطرفين.

وبدا أن ولي العهد يرغب في بداية حكمه متحررا من الاتفاق التاريخي القديم، ليصبح هو المتحكم الفعلي في الحكم دون أي إملاءات من آل الشيخ التي بيدها سلطة تأثير كبيرة وهى “الدين”.

هدم ثنائية “آل سعود وآل الشيخ” ليست بالسهلة خاصة مع تجذر هذا الاتفاق في المملكة، ولكن هذا لا يمنع تهميش أكبر لدور الدين في الدولة، والانقلاب على إرث ابن عبد الوهاب وأحفاده وتلامذته من شيوخ السلفية الوهابية.

ولكن الأهم بالنسبة لمحمد بن سلمان هو عدم وجود الندية في الحكم وتطويع “الدين” كأداة في حكمه وليس متحكما في كل القرارات التي تصدر عنه طوال سنوات توليه عرش السعودية.

الشيخ عبد العزيز آل الشيخ

الشيخ عبد العزيز آل الشيخ

اهتزاز صورة آل الشيخ كانت واضحة من خلال تراجع المفتى العام للمملكة عبد العزيز آل الشيخ عن فتاوى سابقة لا تجيز قيادة المرأة للسيارة، فضلا عن تهميش دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لماذا؟

سعي محمد بن سلمان لتغيير تركيبة السلطة ووقف سلطة “آل الشيخ” لا تتعلق بالرغبة في التحكم والسيطرة فقط، ولكن أيضا لأن “الوهابية” تثير الغرب والمنظمات البحثية ووسائل الإعلام ضد السعودية.

وترى بعض دوائر صناعة القرار في الخارج أن “الوهابية” تحمل أفكارا متشددة بما يشكل ضغطا على ولي العهد الذي يرغب في عملية انفتاح كبيرة على العالم.

وقال موقع “سبيكتيتور” الأميركي إن الوهابية التي تدعمها الرياض هى أخطر تهديد للأمن والقيم الغربية.

ولذلك يسعى بن سلمان فيما يطلق عليه مراقبون “الدولة السعودية الرابعة” إلى تقديم نفسه إلى الغرب عبر تغيير صورة المملكة.

أما الرافد الثاني الذي يدفع بن سلمان لإحداث هذا التغيير، هو رؤية 2030، والتي ترتكن إلى إحداث نقلة في صورة المملكة والاعتماد على السياحة وتدشين مشروع كبير لمنتجعات على ساحل البحر الأحمر، وهو ما يقضي باستقبال سياح أجانب على المدى القريب المنظور.

وبالتأكيد فإن هذا الأمر لن يكون محل موافقة من جانب المؤسسة الدينية المتمثلة في آل الشيخ والفكر السلفي الوهابي، وأشارت صحيفة “لوموند” الفرنسية إلى هذا التحول.

وقالت الصحيفة إن السعودية أعلنت خلال شهر أغسطس الماضي عزمها إنشاء منتجعات ساحلية راقية المستوى على ضفاف البحر الأحمر للسياح الأجانب الذين سيتمتعون بوضع قانوني خاص بهم يتوافق مع المعايير الدولية.

الشعب السعودي

وأشارت إلى أن السعودية من المحتمل أنها ستسمح للمرأة بالسباحة بالبيكيني، وتقديم المشروبات الكحولية في تلك الأماكن.

وهما أمران لا يمكن تصورهما في بلاد تدعي أنها مهد الإسلام وتتبع تعاليم إسلامية صارمة.

شرعية على المحك

وعلى الرغم من محاولات بن سلمان إلا أنه لا يمكنه التحرر تماما من “السلطة الدينية” التي تمنحه بالأساس شرعية الحكم وتولي مقاليد الحكم.

ومثلما كان لآل الشيخ تأثيرات باسم الدين على نمط الحكم والقرارات السياسية المتعلقة بمعاملات السعوديين، فإنهم أيضا عصب شرعية أسرة “آل سعود” من خلال البيعة.

ولكن إذا تخلى ولي العهد عن الرافد الثاني للحكم فإن هذا يعد طعنا في شرعيته للحكم، إذن فإنه سيحافظ على خيوط العلاقة مع “آل الشيخ” التي تحفظ له بقاءه في الحكم وشرعيته باعتباره ولي أمر لا يجوز مخالفته.

ولكن هذا لا يمنع تهميش دور السلطة الدينية تماما، ولكن ذلك في الوقت نفسه يعتبر مغامرة غير محسوبة العواقب في مخالفة الأفكار الراسخة في المجتمع السعودي منذ عقود طويلة، بما قد يفقد “الدين” هيبته في المملكة إذا تحول إلى مجرد أداة في يد الحاكم يوظفها، مع توالي سقطات رجال الدين وتبرير قرارات وتحركات بن سلمان الدخيلة على المجتمع المحافظ.

ولا يمكن إغفال وجود ترقب من قبل رجال الدين وأنصار ومحبي الدعاة المعتقلين لمجمل التحولات بما يشكل نقطة قلق يمكن أن تكون انطلاقة انفجار غاضب من قبل “المتدينين”، هذا بعيدا عن تحركات المعارضة في الخارج الرافضة لقمع بن سلمان وليس الانقضاض على القيم الدينية.