العدسة – ياسين وجدي
عادة يتابع المواطنون في منطقتنا انتقال المسئول الأكبر من العرش إلى النعش ، ولكن في تركيا الجديدة رسم رئيس البرلمان التركي قبل تنحيه “بن علي يلدريم” صورة جديدة وقدم نموذجا جديدا على المنطقة لمسئول يقبل بمنصب أقل لأهداف أكبر منها الشفافية والديمقراطية والإنجاز.
“العدسة” يسلط الضوء أكثر على هذا المشهد الجديد ونموذجه الإيجابي وفق ما يرى المراقبون في هذا التقرير.
مشهد جديد
في مشهد جديد في هرم السلطة في منطقة الشرق الأوسط ، سلّم رئيس البرلمان التركي بن علي يلدريم، اليوم الثلاثاء، منصبه إلى النائب عن حزب “الحركة القومية” جلال عدن، تمهيداً لخوضه الانتخابات على رئاسة بلدية إسطنبول في مارس المقبل.
يلدريم ، اتخذ قراره الشجاع الغريب على المنطقة ، وفق المراقبين ، من أجل مصلحة يراها هي الأعلى حيث كشف في تصريحات صحفية أنه تخلى عن منصب رئيس البرلمان لدرء محاولات إضعاف حزبه “العدالة والتنمية”، من خلال إثارة الجدل حول خوضه الانتخابات المحلية المقررة ، في وقت يتولى فيه رئاسة البرلمان .
“إنه تخلي بأبسط الطرق الديمقراطية له أهداف أكبر” ، بحسب يلدريم إذن ، والذي أضاف في كلمته الثلاثاء 19 فبراير أنه يغادر منصبه وهو مرتاح البال بعد أن سعى لتحقيق التوافق بين جميع الكتل الحزبية فيما وصف القائم بأعمال رئيس البرلمان “جلال عدن” أسلوب “يلدريم” بأنه أسلوب سياسي إيجابي ساهم في توحيد كافة شرائح المجتمع التركي.
نسليهان سام، الأستاذة المساعدة في العلوم السياسية في جامعة “أولوداغ” التركية، ترى في هذا الإطار أن “أردوغان محظوظ لوجود شخص كبن علي يلدريم في صفوفه!” متسائلة في تعليق لها على تنحي “يلدريم” : من يفعل مثلما فعل بن علي مع أردوغان؟! من يقبل أصلاً بأن يترشح لمنصب رئيس بلدية بعدما شغل مناصب وزارية ثم رئاسة الوزراء؟!”.
هذه التساؤلات يكررها عادة مراقبون عرب في مواجهة رؤساء غالبا لا يتركون مناصبهم دون وصولهم لمرحلة النعش بعد العرش ، وفي هذا الاتجاه يقول الكاتب المصري محمد عبد الشكور : “لا تداول للسلطة في هذه المنطقة إلا من خلال العسكر أو ملك الموت، من “العرش إلى النعش”، ولا توجد هناك طرق أخرى تسمح بها أنظمتنا الحاكمة لتداول السلطة، ولو كانوا يرغبون في تداولها حقيقة لما تسلطوا وكبلوا الشعوب بكل ما تعانيه من قيود، وتمترسوا خلف المدافع والبنادق موجهين فوهاتها لشعوبهم المقهورة”، ويستند في هذا الرأي المتواتر إلى وقائع كثيرة منها نهاية كل من الرؤساء السابقين الليبي معمر القذافي واليمني على عبد الله صالح ، والمصري الأسبق محمد أنور السادات .
اللافت أن هذا التخلي عن المنصب الأبرز يأتي في وقت يصر فيه الرئيس الجزائري المنتهية ولايته عبد العزيز بوتفليقة للانتخابات الرئاسية المقررة في 18 أبريل المقبل للمرة الخامسة على التوالي رغم مرضه الكبير ، مما دفع الجزائريون للخروج في مظاهرات سلمية في عدد من ولايات الجزائر احتجاجا على ترشحه.
صاحب الوزن الثقيل
رهان الأتراك على “بن علي يلدريم” (62 عاما) ابن قرية “رفاهية” في ولاية أرزنجان شرقي تركيا، ليس من فراغ ، فهو من أصحاب الوزن الثقيل سياسيا و تنفيذيا الذين لا يموتون على السلطة ، بحسب المراقبين ، وهو ما دفع العديدون إلى التوافق عليه بما فيهم الرئيس التركي نفسه.
“يلدريم” كان نائبا نشيطا عن ولايته ثم رئيسا للحكومة التركية في 2016 – 2018، وهو آخر رئيس للوزراء في تركيا، طبقا للدستور ، ورئيسا لحزب العدالة والتنمية في 2016 – 2017، وفي وقت سابق كان وزيرا للنقل والمواصلات في حكومات حزب العدالة والتنمية برئاسة عبد الله غول ورجب طيب أردوغان وأحمد داود أوغلو، وصعد في 12 يوليو 2018، إلى رئاسة البرلمان في ظل نظام الحكم الرئاسي الذي انتقلت إليه تركيا عقب انتخابات 24 يونيو الماضي.
وخلال فترة ترؤسه لمجلس الوزراء وقع “يلدريم” على العديد من المشاريع الضخمة في تركيا، وتم توصيفه بـ”مهندس المشاريع العملاقة”، كما لقب بـ “الوزير النشيط”، فيما جرى في عهده تنفيذ 6 مشاريع عملاقة من أصل 10 مشاريع، وهي مطار إسطنبول الدولي (ثالث مطار في المدينة)، وجسر السلطان يافوز سليم (الجسر الثالث الذي يربط بين شطري اسطنبول الأوروبي والآسيوي) ، و جسر عثمان غازي (رابع أطول جسر معلق في العالم ويربط بين ولايتي “قوجه إيلي” و”يالوفا” شمال غربي تركيا)، ونفقي أوراسيا ومرمراي (يمران من تحت مضيق البوسفور)، والطريق السريع الواصل بين مدينتي إسطنبول وإزمير، فضلا عن مشاريع أخرى.
زعيم حزب الحركة القومية التركي المعارض، دولت بهتشلي، أعلن في هذا السياق أن حزبه سيدعم “بن علي يلدريم” لرئاسة بلدية إسطنبول، موضحا أن يلدريم كان رئيس الوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية لدى إنشاء تحالف الشعب بين حزبي العدالة والحركة القومية قبيل الانتخابات الرئاسية الماضية وهذا يستدعي دعم الحركة القومية ليلدريم، وهو ما يعتبر تعزيزا للفوز المبكر بالبلدية لصاحب المشروعات العملاقة بحسب البعض.
البلدية الكبرى
“بلدية اسطنبول” كانت محطة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأولى في العام 1994 ومنها انطلق بجانب ” يلدريم” إلى مناصب أعلى، ولذا فهي ذات رمزية تاريخية لحزب العدالة والتنمية و”أردوغان” وفق وصف تحليل لصحيفة “الأخبار اللبنانية”.
وبحسب وصف مراقبون أتراك فإن مدينة إسطنبول تعتبر الحصن الأكبر الذي تتنافس عليه كل الأحزاب التركية، وهو ما يجعل المعركة على منصب “عمدة إسطنبول” صعبة ولاشك.
ولذا كان خيار الرئيس التركي النزول بأثقل أوراقه في المواجهة ، وفقا لوسائل إعلام تركية مناوئة ، حيث ترى أن الحزب الحاكم يخشى من إمكانية خسارة البلدية، التي توصف بالأصعب على الحزب، ولذلك كان اختيار “أردوغان” لـ”يلدريم”، كونه المرشح الأفضل لخوض المعركة حيث قال في ديسمبر الماضي بأنه الأكثر تميزا وخبرة وعبر عن ذلك قائلا :” “رشحنا الشخص الأكثر تميزا وخبرة وصاحب القدرات التنفيذية.. اسطنبول تستحقه”.
وبينما تدور المعارك على الموقع الأهم في المحليات ، ينظر “بن علي يلدريم” إلى اسطنبول من زاوية مختلفة كمحطة إنسانية مدين لها بالكثير ، حيث قال في تصريحات له قبل أيام:” إن إسطنبول لها ديون عليّ وأعتقد أن الوقت قد حان لإيفائها، فيلدريم الذي قدم إلى هنا منذ أن كان عمره 11 عامًا، إلى بن علي يلدريم الآن، وما شهدته في حياتي من تطوّرات عديدة؛ يجعلني مدين لك يا إسطنبول”.
اضف تعليقا