العدسة – منصور عطية

من جديد يُلقى حجر في المياه الراكدة للعلاقة بين السنة والشيعة وملف التشيع في الجزائر، لكن هذه المرة على لسان الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، لتعود إلى الواجهة قضية خطيرة تنأى مكونات الشعب الجزائري دومًا عن الخوض فيها.

وتلقي الأزمة الضوء على تاريخ وحقيقة الوجود الشيعي في الجزائر وحجم ظاهرة التشيع والدور الإيراني في إشعال الموقف؛ حيث يتصاعد المد الشيعي بشكل لافت للنظر، متماهيًا مع مشروع متكامل من جانب دولة إيران في نقل التشيع إلى أقصى البقاع، ضمن خطة تصدير الثورة الخمينية.

وأصبحت الجزائر في مرمى التخوفات من انتشار المذهب الشيعي الاثنى عشري، فقد رصد مراقبون ورجال الأمن العديد من المدن التي ينشط فيها مروجو المذهب الشيعي بين الشباب الجزائري.

الجزائر تكافح التشيع

في رسالته بمناسبة يوم العلم، قبل أيام، والتي تلاها نيابة عنه وزير الثقافة “عزالدين ميهوبي”، قال الرئيس الجزائري: “نرى اليوم أن الشعب الجزائري السُنّي تصطدم وحدته بأفكار غريبة عنا، وتحاليل دينية مخيفة كانت بالأمس القريب مصدر الفتنة، وقد تكون كذلك غدًا، إذا لم نتصدَّ لها بتبصر”.

وأضاف أن ظهور العولمة ووسائل الاتصال الحديثة, وكذا بعض الوقائع التي زعزعت فضاء العالم الإسلامي جميعها “بعثت بأفكار جديدة وهي غريبة عن الشعب الجزائري بالتأكيد، جعلت تماسك مجتمعنا عقائديا وفكريا يتزعزع تدريجيا لتصل الأمور إلى المساس باستقرار الجزائر وإدخالها في جحيم الإرهاب, وفي آلام المأساة الوطنية”.

حدة الرسالة الموجهة من بوتفليقة والخطورة التي ألمح إليها بربط أزمة التشيع باستقرار البلاد وجحيم الإرهاب، أثارت حفيظة أحزاب جزائرية رأت فيها خروجا عما استقرت عليه سياسة الجزائر.

حزب العمال أعرب عن تفاجئه بمضمون الرسالة، مشيرًا إلى أن “تحديد انتماء الشعب الجزائري للسنة غريب وسابقة في السياسة الجزائرية”.

وقال البيان الصادر في ختام اجتماع للحزب، إن “الجزائر شعبًا ودولة لا يمكن إقحامهما في النزاعات الطائفية فيما بين المسلمين”، متابعًا: “كاتب الرسالة اصطف إلى جانب السياسة السعودية التي تريد أن تواجه دول المنطقة ضد بعضهم البعض على أساس ديني خطير يتمثل في جعل السنيين خصوما للشيعة”.

وعلى الرغم من عدم تصريح الرئيس الجزائري بلفظ الشيعة أو التشيع إلا أن فحوى الرسالة واضحة بشدة، في البلاد التي يدين غالبيتها بالمذهب السني المالكي.

اللافت كذلك أن بيان حزب العمال دافع عن إيران واعتبر أنها “ليست عدونا، بل إن عدو شعوب المنطقة والعالم هم الإمبرياليون وخدمهم المحليون”.

المثير أن كلمات الرئيس الجزائري تتماهى مع الموقف الحكومي الرسمي المعارض لمظاهر التشيع في البلاد، حيث أعلن وزير الشؤون الدينية والأوقاف “محمد عيسى” في يونيو 2016 تشكيل جهاز تفتيش يتولى مكافحة حركات التشيع في البلاد، بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية.

وأكد الوزير أن الجزائر مستهدفة في مرجعيتها الدينية، مشيرا إلى وجود “مخططات طائفية لزرع الفتنة في المجتمع الجزائري”.

لمحة تاريخية

الغالبية من سكان الجزائر مسلمون على المذهب المالكي، وهو المذهب الرسمي في الجزائر، وهناك أقليات تتبع مذاهب أخرى، ومن ذلك المذهب الإباضي الذي يعد مذهب أهل منطقة مزاب في الجنوب، كذلك يوجد بضعة آلاف من المسيحيين.

وكان للمذهب الشيعي تواجد كبير في الجزائر خلال مرحلة الدولة الرستمية (776-908 م) التي أسسها الإباضيون وجعلوا من تيهرت (تيارت حاليا) عاصمة لهم ومهدًا لثقافتهم وفكرهم في الشمال الأفريقي، حتى قام الداعية الشيعي أبو عبيد الله الشيعي صاحب الفاطميين بالقضاء على دولتهم عام 908 م.

وتحول الإباضيون نحو الجنوب الجزائري، واستقروا في منطقة وادي ميزاب (غرداية)، وكانت هناك دويلة أخرى قامت في الجنوب الغربي للجزائر وجنوب المغرب إلى جانب الدولة الرستيمة، سميت دولة سجلماسة (أو الدولة المدارية) (758 – 909 م) وهي دولة كالرستمية أسسها شيعة لكنهم على المذهب الصفوي، وقد قضى الفاطميون عليها كذلك.

ومع قيام الدولة الفاطمية في منطقة شمال إفريقيا (910 – 973 م)، كانت محضنًا للمذهب الشيعي الذي كان يعتنقه الفاطميون قبل أن يقوموا بغزو مصر واحتلالها، وقد لعب الفاطميون حسب مصادر أخرى دورًا خبيثاً في محاربة المذهب السني ونشر التشيع من خلال الترويج لمذهب الإسماعيلية، نسبة للإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، إبان حكم الأدارسة عام 172 هجرية. وتذهب تلك المصادر إلى تأكيد أن بربر شمال إفريقيا اعتنقوا المذهب الشيعي وبايعوا الفاطميين على النصرة والولاء.

وأول دولة أسسها الشيعة في التاريخ كانت بــ (سطيف)، ويرى مؤرخون أن دخول الشيعة إلى قارة إفريقيا كان بأمر من الإمام جعفر بن محمد الصادق الذي كلف اثنين من أتباعه بالذهاب إلى المغرب العربي لنشر الفكر الإسلامي الشيعي فيه، فدخلا الجزائر واتجها إلى قبيلة (كتامة).

وبعد قيام الثورة الإيرانية سنة 1979، بدأت ملامح المشهد السياسي في الوطن العربي عمومًا والجزائر خصوصًا تأخذ شكلًا جديدًا، متأثرة بالفكر الثوري؛ مما جعل التيار الديني في الجزائر يقتنع بقيام الإسلام السياسي ووصوله إلى السلطة وأصبحت هذه الثورة بمثابة قدوة ونموذج ناجح.

لكن التواجد الشيعي في الجزائر لم يكن له وجود واضح قبل فترة الثمانينيات؛ حتى بدأت البعثات الدراسية من الجامعات الوطنية نحو مؤسسات للتعليم العالي في دول بالمشرق العربي، خاصة تلك التي لديها نسبة كبيرة من أتباع المذهب الشيعي مثل سوريا ولبنان والعراق.

ويضاف إلى عامل الهجرة في إطار المنح الدراسية، السفارة الإيرانية بالجزائر، والتي وصف دورها بالمركزي في نشر التشيع هناك من خلال تسويق النموذج السياسي للإسلام السياسي في إيران، واعتباره نموذجًا للعدالة الاجتماعية وفق الشريعة الإسلامية، وكقائد لدول المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

ومن الأسباب التي اعتمد عليها المروجون للمذهب الشيعي في الجزائر، الارتباط الكبير للشعب الجزائري بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين يحظون بمكانة كبيرة بينهم؛ كما يبدو أن تحول بعض الجزائريين إلى المذهب الشيعي ناتج عن علاقاتهم بأقربائهم وأصدقائهم، أو باحتكاكهم بالشيعة المقيمين بالبلاد أو بالسفر، كما أن للمراجع والكتب الشيعة أثرًا في قبولهم فكرة التشيع نتيجة الخواء الروحي وفقر الخطاب الذي أتبع العشرية الدموية (الحرب الأهلية في الجزائر)، ناهيك على انتشار الفضائيات الشيعية، والتأثر بحزب الله اللبناني.

واقع وحضور الشيعة في الجزائر

وعلى الرغم من الحرب التي تشنها السلطات ضد الترويج للمذهب الشيعي (وهو ما يطلق عليه وصف الاستبصار) في الجزائر، إلا أنَّ حضورهم هناك يبقى محدودًا في بعض الولايات والمدن مثل الجزائر العاصمة، باتنة، تبسة، خنشلة، تيارت، سيدي بلعباس.

وتقول مواقع إلكترونية شيعية مثل موقع مركز الأبحاث العقائدية، إنّ المذهب الشيعي “يزداد انتشارًا بشكل سري في قطاعات واسعة من المجتمع الجزائري، بعد أن نقله إليهم مدرسون وموظفون قدموا للعمل من العراق وسوريا ولبنان”.

وتعتبر مدينة “سيدي خالد” التابعة لولاية بسكرة (جنوب الجزائر) المركز الروحي لشيعة الجزائر، نسبة إلى ضريح رجل يدعى “خالد بن سنان العبسي”، يتخذه شيعة الجزائر – الممنوعون من الحج إلى أماكنهم المقدسة – مزارًا يستخدم خفية لقضاء ليلة عاشوراء وممارسة الشعائر الشيعية.

الباحث المهتم بقضايا التشيع في الجزائر “نور الدين المالكي” رصد أكثر من 150 تجمعًا سنويًا للشيعة في مختلف مناسباتهم الدينية، مؤكدًا أن شهر محرم هو شهر “المآتم” بالنسبة لهم، وهو الذي يكثر فيه تجمع هؤلاء المتشيعين الجدد منهم والقدامى.

وفي أكتوبر 2013، قال الناطق الرسمي باسم جبهة الصحوة الحرة السلفية غير المعترف بها في الجزائر “عبدالفتاح حمداش”، إن عدد الشيعة في الجزائر لا يتجاوز الـ3 آلاف على عكس ما تروجه بعض المصادر ومواقع الإنترنت التابعة لهم، والتي تقول إن عددهم بات يناهز الآن الـ80 ألفًا، بينما تقدّر إحصائيات مختلفة عدد شيعة الجزائر بـ 75 ألفا.

والتشيع في الجزائر، بدأ وفق تقارير إعلامية في الظهور العلني خلال 2016، كما رصده البعض من خلال عدة شواهد، سواء فيديوهات أو حتى كتابات حائطية، إحداها تم تسجيله في ولاية خنشلة شرق البلاد، ورصدت وسائل الإعلام الجزائرية الظاهرة، وقالت إن الأمن فتح تحقيقا في منشورات تدعو للتشيع، خصوصا في ولايتي غرداية وبسكرة جنوب البلاد، أما في تلمسان غرب الجزائر، نظر القضاء في قضية تهديد شرطي يعتقد أنه اشتغل على تحقيق يخص ملف التشيع.

ونشر مركز الأبحاث العقائدية الشيعي، عبر موقعه الإلكتروني عددا من المداخلات لجزائريين اعتنقوا هذا المذهب، يتحدثون عما يسمونه بـ”القمع والمضايقات، ويطالبون القائمين على هذا المركز بدعمهم بالكتب والمرجعيات الشيعية الدينية.

ولا يُعرف للشيعة في الجزائر أي نشاط علني يمكن من خلاله تتبع مواقفهم وآرائهم في الشأن العام بالبلاد، لكن ظهر لهم حديثا عدة مواقع إلكترونية جعلوا منها منبرا لهم، للحديث عن تواجدهم والتعبير عن آرائهم دون التدخل في شئون الدولة بحكم أن لديهم – حسب زعمهم – مهمة أسمى من ذلك بكثير، ألا وهي تقديم النصيحة وكشف الحقيقة.

وتعد الجزائر البلد السني الوحيد الذي يدرج عاشوراء في خانة أيام العطل مدفوعة الأجر، كعيدي الفطر والأضحى، والمولد النبوي الشريف، وهو الأمر الذي يعارضه أنصار التيار السلفي، ويعتبرونه انحيازا غير مبرر وخدمة مجانية لغير المذهب السني.

وتأتي مطالب الشيعة الجزائريين، بالإضافة إلى الاعتراف الديني لا يمكن عزلها عن المطالب السياسية، فالانتخابات المحلية والتشريعية السابقة، وحتى التي قبلها شهدت محاولات منهم لاختراق بعض الأحزاب السياسية، وترشحهم في بعض القوائم، كما أن أبرز رموزهم الحالية كانت تنشط في أحزاب سياسية، وقد يكون هذا محاولة تمدد داخل الأجهزة الإدارية لتمكين المتشيعين وتسهيل نشاطهم بطرق مختلفة، وربما يسعون إلى تأسيس أحزاب سياسية في المرحلة المقبلة.

وهناك العديد من المتشيعين تمكنوا مؤخرا من اختراق العديد من المجالس المنتخبة، وبعض المدارس الخاصة، الجامعات والمساجد وحتى مديريات الضرائب.

وعثر باحثون على بعض الكتب التي تمجد آل البيت وتقدح في صحابة رسول الله مثل أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وتسب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في أحد مساجد “برج بوعريريج”، ومسجد الغزالي في أعالي العاصمة بحيدرة.

فتش عن إيران!

ويعد الدور الإيراني عاملًا مهمًا في انتشار التشيع بالجزائر، ففي شمال مدينة طهران وفي شارع ميرداماد (وهو فيلسوف إيراني برز في بداية عهد الصفويين)، تعمل وحدة تابعة لمكتب المرشد الإيراني على خامنئي، تسمى “كتامة” كذراع إيرانية خفية تعبث في المشهد المغاربي، بحسب ورقة بحثية نشرها مركز العصر للدراسات السياسية والاستراتيجية.

وتعمل الوحدة على تقديم الدعم المعنوي والمادي لشبكات تشييع منتشرة في المغرب العربي وتكثيف نشاط التشيع عبر أوروبا، حيث تستهدف الجاليات المغاربية في فرنسا وبريطانيا وألمانيا.

وتزايد الحديث خلال الأيام القليلة الماضية عن حركة مشبوهة تقوم بها بعض الجهات المرتبطة بإيران في نشر التشيع بشكل سِري في الجزائر، وكشفت صحف ومواقع إعلامية عن تحركات دؤوبة تقوم بها السفارة الإيرانية في الجزائر لتصدير الفكر الشيعي.

وعمد ناشطون حقوقيون على إطلاق حملة على شبكات التواصل الاجتماعي تبنوا فيها المطالبة بطرد الملحق الثقافي بسفارة إيران في الجزائر “أمير موسوي”، لأنه يسعى بقوة إلى نشر التشيع تحت غطاء التقارب بين البلدين في المجال الاقتصادي.

ويقول الناشطون، إن “موسوي” تجاوز مهمته الدبلوماسية فصار ينسق سريا مع متشيعين جزائريين، ونظم لعدد منهم رحلات إلى طهران وقم والنجف، إلى حد اعتبر فيه كثيرون الملحقية الثقافية الإيرانية مركزا لنشر التشيع بالبلاد.

الكاتب والحقوقي الجزائري، أنور مالك، كشف وجود خلايا سرية لنشر التشيع في الجزائر، وقال إن “ما حققته إيران من مكاسب في نشر التشيع بين الجزائريين خلال 15 عاما، لم يسبق له مثيل في الجزائر التي بلغت مرحلة الخطر”.

ويعد نشر التشيع من محاولات الاختراق السياسي الإيراني، فقد سعى المتشيعون مع الانفتاح السياسي الذي عرفته الجزائر في أواخر ثمانينيات القرن الماضي التغلغل بين قواعد حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذي كان يسيطر على الساحة والترشح في الانتخابات المحلية والبرلمانية غير أن تلك المحاولات لم تتوج بوصول عناصر متشيعة إلى أي منصب قيادي.

ويعتبر ملفا التعاون الاقتصادي والمد الشيعي أهم التحديات التي تواجه الجزائر في العلاقات مع إيران؛ فالمد الشيعي لإيران انعكس على جميع البلدان التي نجح في بناء حاضنة مجتمعية بها بالوبال والاقتتال الطائفي مثلما يحدث في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن. وتبحث إيران، عن طريق الجزائر؛ على بوابة لها في الشمال الإفريقي اقتصاديا وفكريا.

وبالتالي فإن التشيع أصبح موجودا في الجزائر اعتمادا على سياسة التقارب بينها وبين إيران، خاصة مع حالة النشاط الشيعي التي شهدتها الجزائر ما بعد ظاهرة الربيع العربي، وهو ما كان واضحًا من خلال ظهور العديد من الفيديوهات التي تظهر احتفالاتهم بالمناسبات الشيعية.