يوسف الدموكي
كاتب و شاعر مصري
بير لسان بير إنسان ..
كان يوْمًا مُرهقًا وطويلًا بساعاته الصباحيةِ الأربع، اللاتي امتلَأتْ فيهن آذانُنا بتعليماتِ مركز اللغة، بالجامعة التي جاءَني القبولُ فيها لحصولي على منحة الحكومة التركية هناك. ستكون هذه سنةً تحضيرية لدراسة اللغة التركية وإتقانها، ثُمّ بداية مرحلة البكالوريوس لدراسة الإعلام بالجامعة ذاتِها.
عددٌ كبيرٌ من الطلاب أتَوْا من المشرق والمغربِ، فائزين بالمنحة أو على نفقاتهم الخاصة، سودًا وبيضًا وصُفرًا وحُمرًا، مختلفة ألسنتهم بين العربية والفرنسية والفارسية والصينية والروسية والإنجليزية –فضلًا عن اللغات المحلية-، والهدفُ واحدٌ والغايةُ موحَّدةٌ بينهم جميعًا، ولا تتقاطعُ اللغات ولا تتحدُ الألسنةُ إلا في لحظاتِ الصمتِ أو الضحك.
لم أنشغل بالتعليماتِ التي أمامي بقدرِ ما كنتُ أتأملُّ العوالِم التي حوْلي، الأستاذُ التركيّ يشرحُ ما ينوّه عنه، وعلى يمينه وشماله خمسة طلابٍ يترجمون كلامَه جملةً جملةً إلى خمس لغات، في مشهدٍ داعٍ إلى السباحةِ في ملكوتٍ خاص، والسياحةِ في فصلٍ أوسعَ من الذي يجمعنا؛ فصلٍ من الفصولِ التي تُترجمُ فيها الأذنُ إلى فصوص العقلِ شيئًا جميلًا خالِصًا، عن إبداعِ الخالقِ في تركيب المخلوقات، وكيف جعل من هذا الاختلافِ هذا الجمالَ المتآلفَ كلَّه.
انتهيتُ من هذه المحاضرة التأسيسية التي شغَلني عن مللِها، متعةُ التفكير والتفكّر. ركبتُ حافلةً متجّهةً إلى الميْدانِ لأحوّل بعض النقودِ، ومن عجبِ القدَرِ ودقّة ترتيبه أن جلستُ إلى جوار شيخٍ ستّينيّ. ما لبثتُ أن استقررتُ في مكاني حتى وجدتُّه التفتَ إليَّ وبدأ يتعرفُ –وأنا درستُ التركيةَ ستة أشهر وعرفتُ فيها قدرًا غير يسيرٍ من المحادثة-، اسمي وعُمري ولمَ أنا هنا وماذا أدرس ولماذا تركيا وأين أسرتي وماذا عن مصر وأين والدُك وكم يتقاضَى في عملِه، والشعبُ التركيُّ أشهرُ خصلةٍ فيه الفضول والتطفّل بمجرد التعارف في خمس دقائق ليسألك في الدقيقةِ السادسةِ عن الراتب والأسرةِ والزوجةِ إن كنتَ متزوجا ولماذا تخاصمتما أمس، وغيرها من الأسئلة.
ثم بدأ الشيخُ يتحدثُ بحكمةٍ تؤيدُها لحيتُه البيضاء، ووجهه المسنّ وما فيه من تجاعيدَ رسمتها نوائب الدهرِ وتقلبات الزمان. وسألني بالعربية إن كنتُ أتحدثها، وبالإنجليزية، وبالتركية، في أسئلةِ غرضُها الإقرارُ والتمهيد لحكمةٍ سيقولُها الآن؛ فقال: “ماشاالله، بير لسان بير إنسان، أُ زَمَان، سان أوتش إنسانسين تشونكو أوتش لسان كونوشويورسون”..
والمعنى: أنّ اللغة الواحدةَ تساوي إنسانًا واحدًا، ولذا أنت إنسانٌ تساوي ثلاثةً لأنك تتحدثُ ثلاثَ لغات.
كلامُ الشيخِ كان تتمةً لما سبقَه في اليومِ ذاتِه من تفكير وتأمّل، وتصديقًا على المشهدِ الذي لم يبرَح ذهني حتى بلغَ في فكري أشدَّه، أنّ الله لو شاءَ لجعلَ لكلِ البشرِ لسانًا واحدًا، ولكنّها عظمةُ الخالقِ في جعلِنا مختلفين، لأنَّ التطابقَ إن كانَ قاعدةً للجمال في شيءٍ، فهوَ خاصٌ بالجمادات التي تراها عيوننا المختلفة من زوايا مختلفة. أمّا نحنُ الأحياء؛ فاختلافُنا هو قاعدةُ الجمال، وتخيّل عكسَ ذلك وأخبرني ماذا سيكون شعورُك.
من زاويةٍ أخرى في حديثي مع الشيخ، أخبرَني أنه كان يدرسُ الإلَهيات -تخصص الشريعة الإسلامية بتركيا-، وأنه تعلَّمَ بعضَ العربيةِ ليقرأ القرآن، ثم سألتُه إن كان حافظًا له؛ فأخبرني أول مرةٍ بعينِه ولم تتحرك شفتاه، ثم أكملَ على حديث عينيهِ الصامتِ بلسانه الناطق؛ أنّ القرآن عربيٌّ واللغةُ صعبة ولم يحفظ منه إلا بعضًا من قصار السور، أمَّا نحنُ فيالَهنائنا به ويالهنائِه بنا، ولم أرد أن أقاطعَه فيخرًّ صعِقًا أننا أوتينا اللغةَ وأهملْنا أعظمَ ما كُتبَ بها، وسكتُّ وسكتَ وتكلمَت العينانُ بشيءٍ جعلَ صدري ضيّقا حرجا كأنما يصعّد في السماء.
قبلَ أن أُكملَ كلامي، في هذه اللحظة التي أكتبُ فيها حدث ما يلي: العاملُ التركيّ جاء إلى شقّتنا بالسكنِ الطلابيّ ليُصلح في الحمّام شيئًا ما، ثم خرج بعدما أنهى عمَله ليخبرني أننا يجب ألا نستعمله قبل الغد، ثم لاحظ وهو يحدّثني أنني أكتبُ هذا المقال، فسألني “تكتب العربية؟” فضحكتُ مرتين، الأولى لطريقتِه والأخرى للأقدارِ التي تصرّ على تواترِها في عجب! فأجبتُه أني عربيّ، فأخذ يعدّ لي الأرقامَ العربية ثم سأني عن اسمي.. “أنا يوسُف”.. “وأنا صلاحُ الدين الأيوبيّ”!.. ابتسمنا وانصرف!
في مطعمِ السكنِ جلسنا في ذاك اليومِ التأمليّ بامتياز، بلا ترتيب.. أنا أحضرتُ طعامي وجلست إلى الطاولةِ ولها ثمانية كراسيّ، انضمّ إليّ سودانيانِ كنا قد تقابلنا في شؤون الطلاب، ثم انضمّ تركيٌّ صديقُ جديدٌ لأحدهما، ثم طالب من “غانا” يتحدث لغته المحلية والفرنسية والإنجليزية والتركية والعربية، وكان يفضل العربيةَ في حديثِه ويحفظُ أبياتًا كثيرةً من الشعرِ العربيّ، ثم انضمّ آخرٌ يتحدث الفرنسية وبعض التركية، وآخرٌ من “اليمن”. في صلاة المغربِ كان يؤمّنا شوْقي اليمنيّ، وفي العشاءِ صلّى بنا “مدّثر” الغانيّ، والذي كان يقرأ القرآنَ كما أُنزلَ إحكامًا وأحكامًا.
إذَن؛ العالَم بأسرِه تجمعُ أعراقَه المختلفةَ طاولةٌ واحدةٌ، يتفاهمُ كلٌّ ممن عليها ببعضِ ما عنده من كل لسان، يحاولُ كلٌّ أن يلتقطَ كلمةً تقربُه من محدّثه، ويتحدثُ كل متكلِّمٍ بلغةِ المخاطَب، وتتوحدُ الألسنةُ كلها في اللحظةِ التي لا نجدُ فيها نقطةَ تقاطعٍ لكلمةٍ ما، فتتوحدَ مرةً أخرى؛ لتسكتَ ونضحك.
أمْس.. فتحتُ كتابًا بشكلٍ عشوائيٍّ لأقرأَه، فإذا هو “بين الجزر والمد” للأستاذة ميّ زيادة، وإذا بها تتحدثُ في الكتاب عن أصول اللغات، وتاريخِ العربيّة، ونقاطِ الاختلافِ بين أهلها، ومدى ارتباطِ اللغة بحضارة أهلها، وتقاطع الفنونِ والآداب والحضارةِ في ساحةِ الحرف واللسان والكلمة، فكان كذلك من تتمةِ الأقدارِ المرتبةِ بامتياز.
فتعلمتُ مما تأملتُ أنَّ اللغةَ إن لم تُحمَل على أعناقِ أهلها حيَّةً؛ ماتوا ومالت أعناقُهم. وإنّ اللسان المكتفي بلغته –وإن أتقنها- كمنْ يقرر أن يرى بعينٍ واحدةٍ في زمنِ تصحيح النظرِ وتدقيق الرؤيةِ والنظاراتِ ثلاثية الأبعاد. وإنَّ المتحدّث بلغاتِ الآخرينَ وهو مهملٌ للغتِه كمن عقّ أمّه فناداها باسمها ثم قال لكل رفيقاتها يا أمّي. وإنَّ الأعمى لو علمَ أن هناك شجرًا أخضرَ وسماءً بيضاءَ وبحرًا أزرقَ وبشرًا من كل لونٍ، ينظر إليهم الإنسانُ بعينٍ ساذجةٍ لا تتأمل؛ لانتحرَ من عمى المبصرين! وإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور.
جميل جدا ❤