زادت الفجوة بين الجزائر والإمارات في مواقفهما تجاه الأزمات الإقليمية، وأخذت الدولة الأفريقية تبتعد كثيرًا عن سياسات الدولة الخليجية، بل ووصلت في بعض الأزمات كالأزمة التونسية لتعزيز استراتيجيتها تجاه الأهداف الإماراتية باعتبارها سياسة مناوئة لأمنها القومي.
لم يخرج هذا التوتر الهامس بين البلدين للعلن؛ وظلَّت هذه الخلافات تُدار داخل دوائر صنع القرار في أكثر من أزمة على رأسها الأزمة الليبية والتونسية، عبر استحداث سياسات لكلٍّ منهما تنافسية في الأمور السابقة. نرسم في السطور القادمة صورةً كاملة عن أبرز هذه الملفات، وطبيعة هذه الخلافات بين الجانبين، وكيف انعكست على خياراتهما في الشرق الأوسط.
الجزائر ترفض «الانصياع» للإمارات
في بداية الأزمة الخليجية، وبالتزامن مع إعلان السعودية والإمارات ومصر والبحرين قطع كافة العلاقات الاقتصادية والسياسية مع قطر، تطلعت الأنظار نحو موقف الجزائر من هذه الأزمة، وخياراتها تجاه دعم أيٍّ من الجانبين، قبل أن تصدر الجزائر بيانًا رسميًّا تدعو فيه الدول إلى الحوار بوصفه «وسيلة وحيدة» لتسوية الخلافات بينها، وضرورة احترام السيادة الوطنية للدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
مالت بذلك الجزائر بعض الشيء نحو الموقف القطري بدعم الحوار، وعدم التماهي في المواقف السياسية للرباعي العربي، استكمالًا لمواقفها السابقة التي أخذت فيها موقفًا مناوئًا لمواقف السعودية والإمارات، مثل رفضها تصنيف حزب الله بـ«الإرهابي»، وعدم الانخراط في التحالف العسكري في اليمن، فضلًا عن عدم قبول الجزائر تعامل الإمارات مع قادة حركة حماس بوصفهم «إرهابيين».
الميل نحو الموقف القطري بدعم الحوار انتقل، لاحقًا، للتنسيق في الأزمة الليبية وقضية القدس، بزيارة وفود رفيعة المستوى بين البلدين، على مدار الأشهر الأخيرة، في دلالة موحية على عدم قبول الجزائر بالضغوطات عليها لعدم إشراك قطر في المفاوضات بالأزمات المُلحة في المنطقة.
يتأكد ذلك في تصريحات إبراهيم بن عبد العزيز السهلاوي سفير قطر لدى الجزائر، والذي أكد أنّ «موقف الجزائر مشرِّف للغاية في الأزمة الخليجية، موضحًا أن هذه المواقف تضع الجزائر في مرتبة الدولة التي يطمئن لها الجميع، وتؤهلها للعب دور فعال في حل الخلافات العربية- العربية». كما أخذ الدعم الجزائري أوضح صوره في دعم الدولة الأفريقية للمرشح القطري في انتخابات اليونسكو، على حساب المرشح المصري المدعوم إماراتيًّا وسعوديًّا.
ولا ينفصل الموقف الجزائري من الميل القطري على حساب الإمارات عن المساعدات المالية القطرية للجزائر بالتزامن مع الأزمات الاقتصادية التي عاشتها الدولة الأفريقية، فضلًا عن تجاوز حجم الاستثمارات القطرية في الجزائر 6.5 مليار دولار في قطاعات الحديد والصلب، والبتروكيماويات، والمناجم، وصناعة السيارات، واللوجستيك، والطاقة.
التقارب القطري- الجزائري امتد مؤخرًا لتشكيل الدوحة مجموعة أفريقية لسفراء 25 دولة أفريقية، وأعلنت عن اختيار سفير الجزائر لديها لترأُّس هذه اللجنة، فضلًا عن احتضان مقر السفارة الجزائرية لهذه الاحتفالية، وتعهَّد السفير الجزائري بـ«دعم علاقات التعاون بين قطر والدول الأفريقية وإبراز إمكانات القارة، وخاصة الاقتصادية، في إطار مبادرة الشراكة الجديدة من أجل التنمية في أفريقيا (النيباد)».
أحد أبعاد التوتر القائم بين الجانبين تشغل في العلاقة «المتينة» بين الجزائر وإيران، خصوصًا بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، العاصمة الجزائرية، في نهاية 2017، ولقائه وزير الشؤون الأفريقية والعربية عبد القادر مساهل، وتأكيده أن البلدين يتفقان على مبدأ «احترام أراضي الدول وسيادتها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والسعي إلى الحوار، والتوصل إلى الحلول السلمية للنزاعات والخلافات».
ولا تنفصل العلاقات القوية بين الجزائر وإيران، خصوصًا في المجالين الدبلوماسي والاقتصادي، من خلال عرض التعاون المصرفي والاقتصادي، والطرق الكفيلة بتفعيله ودفعه نحو الأمام، عن العلاقات المتقاربة بين قطر وإيران، على خلاف الخلاف السياسي بين الإمارات والسعودية من جهة، وإيران من جهة أخرى، وهي المسألة التي ترسم صورة كاملة عن أحد محددات الخلاف بين الإمارات والجزائر.
الأزمة الليبية.. خيارات الجزائر مخالفة لرهانات الإمارات
كان الجمود الرسمي من جانب الجزائر تجاه خطط «خليفة حفتر»، أبرز الفاعلين الذي تعول عليهم الإمارات في الأزمة الليبية، أحد مُحددات توسع الهوة بين البلدين، وحدث أشبه ما يكون بالشقاق السياسي في ظل الحضور والنفوذ الجزائري القوي في الأزمة الليبية كون الجزائر تتعامل مع الأزمة الليبية بمنظور أنها امتداد للأمن القومي الجزائري، وذلك للتقارب الجغرافي مع ليبيا.
لم تدعم الجزائر حفتر في ليبيا، إذ رفضت عدة مرات دعم مشروعه وقراراته، للحد الذي دفع حفتر إلى وصف الجزائر «بالدولة غير الشقيقة والعدوة»، واتهامها بالانحياز للحكومة التي كانت تتخذ طرابلس مقرًا لها، بغض الطرف عن الإرهابيين الذين يدخلون ليبيا.
وفي نهاية عام 2017، تجدد الرفض الجزائري لخيارات حفتر في الأزمة الليبية؛ حين أعلنت رفضها وقف العمل بالاتفاق السياسي الذي رعته الأمم المتحدة. للاتفاق السياسي، وهو الاتفاق المُعروف بالصخيرات بالمغرب، برعاية الأمم المتحدة والدول المجاورة.
في المقابل؛ ترى الجزائر أن الحل في الأزمة الليبية يتمثل في الرهان على «فايز السراج»، رئيس المجلس الرئاسي الليبي، وتفعيل اتفاق الصخيرات، الذي يُمثل السراج فيها أحد الفاعلين فيه، كإطار وحيد من أجل البحث عن حل سياسي للأزمة الليبية، خصوصًا أنه يجد دعمًا من جانب الأمم المتحدة. لا يقف الدعم الجزائري لسراج، خصم حفتر، وحكومة الوفاق الوطنية الليبية، على المستوى السياسي فقط، إذ تساعده الجزائر كذلك في إدارة البلديات، وتنظيم الانتخابات، وتدريب مزيد من فرق الشرطة، ودعم تركيز منظومة السجون في ليبيا.
مساعي الجزائر لتحجيم دور حفتر تظهر في البيان الرسمي الصادر عن رئاسة الحكومة الجزائرية بعد لقاء حفتر برئيس الوزراء عبد المالك سلال، وكذلك البيان الصادر عن وزارة الخارجية الجزائرية عقب اجتماعه مع مساعد وزير الخارجية، عبد القادر مساهل، فلم يشر كلا البيانين إلى حفتر بصفته قائدًا للجيش الليبي. فضلاً عن إلزامه بعدم ارتداء البذلة العسكرية في هذه اللقاءات التي سعت من ورائها الجزائر إلى سماع كُل الفاعلين في الأزمة الليبية.
أمام الدعم الجزائري الرسمي للسراج ودفعه نحو تفعيل اتفاقية الصخيرات؛ يعارض القائد العسكري في شرق ليبيا خليفة حفتر، هذه الاتفاقية، ويعد كافة الكيانات المنبثقة عنه فاقدة الشرعية السياسية والشعبية، واستمرار أدوار هذه الكيانات هو بمثابة أمر مرفوض تمامًا بالنسبة له، كعدم اعترافه بحكومة الوفاق التي تتخذ من طرابلس مقرًا لها.
وعلى مدار العامين الماضيين، كانت الإمارات على النقيض تمامًا من الموقف الجزائري حيال الأزمة الليبية، عبر دعم مفتوح لخليفة حفتر، تشغل في تقديم مروحيات قتالية وطائرات حربية لقوات حفتر. وسعت الإمارات، بعد فشل رهانها على حفتر في الأزمة الليبية، إلى الوصول لتسوية مشتركة بين حفتر والسراج من خلال ترتيب اجتماع ثنائي عقد في أبوظبي، وضم خليفة حفتر قائد الجيش الليبي وفايز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية، في مارس (آذار) العام الماضي، قبل أن يتباعد الطرفان من جديد على خلفية توتر وخلاف في وجهات النظر.
وحسب تقرير صادر من هيئة الأمم المتحدة، أرسلته إلى مجلس الأمن الدولي فـ«الإمارات العربية المتحدة قدَّمت على حدٍ سواء الدعم المادي والدعم المباشر للجيش الوطني الليبي، ما زاد بشكل ملحوظ الدعم الجوي المتاح». نجاح الجزائر في فرض نفوذها على أرض الواقع في ليبيا، وقدرتها على تسويق استراتيجيتها بين كافة القوى الدولية كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، شارك بشكل كبير في تحجيم النفوذ الإماراتي الذي كان رهانه الأول دعم حفتر.
في تونس.. الجزائر والإمارات ليستا على وفاق
تُشكل الأزمة التونسية أحد مُحددات الخلاف بين الإمارات والجزائر؛ فالأخيرة تتعامل مع القضايا الداخلية لتونس بوصفها امتدادًا لأمنها القومي، وأدت التدخلات الإماراتية في الشأن التونسي إلى توسع الهوة بين الجزائر والإمارات.
تمثلت هذه التدخلات الإماراتية في تجميد عدد من مشاريعها الاقتصادية في تونس، إضافة إلى وضع صعوبات في وجهالعمال التونسيين والتدخل في الحياة السياسيّة المحليّة، فضلاً عن بعض القرارات الأخيرة بمنع ركوب التونسيات الطائرات المتجهة إلى الإمارات. وحسب إحدى الوثائق المُسربة، تمثلت استراتيجيّة الإمارات للاستفادة من الأوضاع القائمة وتحقيق تطلعاتها في الساحة التونسيّة من خلال كسر النفوذ الجزائريّ والقطريّ وأدوات تحقيق ذلك. فهي ترى في الجزائر، وبالذات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة والقيادات العسكريّة النافذة، حليفًا لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، الذي شارك في تقوية علاقاتها بالإسلاميين الجزائريين والليبيين، وكذلك الأمر مع قطر التي تحظى أيضًا بحضور إعلامي وثقافي محلي قوي.
لا تنفصل هذه الاستراتيجية عن التسريبات حول توصيات مسؤولين جزائريين لنظرائهم التونسيين عن خطة إماراتيّة للتدخل في تونس، فضلاً عن وجوب التنسيق والتعاون الدائم لمواجهة أي مساع إماراتية لحلحلة الاستقرار القائم في تونس. واستخدمت الإمارات أكثر من ورقة للتضييق على التونسيين، إذ منعت الدولة الخليجية في سبتمبر 2015 إعطاء تأشيرات للتونسيين، أو حتّى تجديد تأشيرات الإقامة لمن تحصّلوا عليها سابقًا، والتي انتهت مدة صلاحيتها.
كما شكلت الاستثمارات المالية أحد أوراق الضغط التي مورست بحق تونس من جانب الإمارات خلال ولاية الرئيس التونسي السبسي؛ إذ أوقفت الإمارات عددًا من المشاريع التجارية التي كانت قد تعاقدت معها تعاقدًا فعليًا بسبب التوتر السياسي القائم بين البلدين. أمام هذا التضييق الإماراتي على تونس؛ حاولت الجزائر تعويض ذلك بمنحها مساعدات مالية بلغتقيمتها نحو 200 مليون دولار، تحتوى وديعة قدرها 100 مليون دولار في البنك المركزي لزيادة احتياطياته، وقروضًا قيمتها 100 مليون دولار، فضلاً عن منحها معدات عسكرية متطورة كصواريخ جو- أرض روسية الصنع التي تستخدم في قصف أهداف أرضية، وتدريب عناصرها الأمنية على مكافحة الإرهاب.
اضف تعليقا