العدسة _ منصور عطية
محاولة قد يراها كثيرون بائسة تسعى من خلالها المملكة العربية السعودية إلى غسيل سمعتها فيما يخص القدس والقضية الفلسطينية بشكل عام، بعد سلسلة من المواقف التي اعتبرت مخزية على مدار الأشهر القليلة الماضية.
وربما ظن ولي العهد محمد بن سلمان أن أمواله التي تشتري مواقف دول وتشوه أخرى قادرة على شراء القدس، وامتلاك بلاده زمام المبادرة في القضية، لكن يبدو أن السحر انقلب على الساحر.
قمة القدس من الظهران
من مدينة الظهران، شرقي المملكة، أعلن العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز، إطلاق اسم “قمة القدس” على أعمال القمة العربية الـ29 المنعقدة في المدينة، الأحد.
وقال في كلمات مقتضبة: “أود أن أعلن عن تسمية القمة الـ29 بقمة القدس، ليعلم القاضي والداني أن فلسطين وشعبها في وجدان العرب والمسلمين”.
وأعلن الملك سلمان عن تبرع المملكة بمبلغ 150 مليون دولار أمريكي لبرنامج دعم الأوقاف الإسلامية في القدس، و50 مليون أخرى لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
مبدئيًّا فإن تسمية القمة ومبلغ التبرع السعودي وكلمات الملك سلمان، ربما تصب جميعها في اتجاه محاولة الرياض غسيل سمعتها مما علق بها من فضائح ومواقف مخزية بشأن القدس والقضية الفلسطينية خلال الفترة الأخيرة على يد نجل الملك، والمسيطر الفعلي على مقاليد الأمور في البلاد.
ولعل المملكة وجدت ضالتها في قمة تحتضنها أراضيها، في مسعى لمسح تلك المواقف والتصريحات المريبة من أذهان العرب والمسلمين، والفلسطينيين تحديدًا الذين ادعى العاهل السعودي أنهم في وجدان العرب والمسلمين.
لكن هيهات هيهات، أن تشتري حفنة من الدولارات قضية الأمة المركزية، وتعيد تاج الوقار والهيبة الذي تحاول السعودية ارتدائه بصفتها حاضنة الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين حول العالم.
المفارقة أن القمة وما أُعلن فيها بلسان العاهل السعودي تأتي قبل نحو شهر من تنفيذ التعهد الأمريكي بنقل سفارة واشنطن في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس المحتلة، بعد الاعتراف بها عاصمة موحدة للاحتلال.
كما تأتي بعد أسبوعين من تصريحات مستفزة أطلقها “بن سلمان” وأكد فيها أن بلاده “تتقاسم المصالح مع إسرائيل”، وأنه “للإسرائيليين الحق في العيش بسلام على أرضهم”.
أشياء لا تُشترى!
السعودية يبدو أنها ظنت أنه بإمكانها شاء كل شيء بالمال، المليارات الهائلة التي تكسب بها الرياض ود الحلفاء الأقوياء وتشتري بها ذمم ومواقف دول وشخصيات وتستخدمها لتشويه دول أخرى في المحافل الدولية.
لكن الموقف مع القدس يبدو مختلفًا كثيرًا، فأقصى ما يمكن أن تحققه السعودية من تلك المحاولة الزائفة، تلميع صورتها أمام الشعوب العربية والإسلامية، واستغلالها في تحقيق الشو الإعلامي المطلوب، فضلًا عن شراء مواقف السلطة الفلسطينية التي سوف تستقبل جزءا من تلك الأموال.
المال السعودي كان حاضرًا بقوة خلال الفترة السنوات الأخيرة في كثير من المواقف والتجارب، فهذه هي التقارير الإعلامية، التي نقلت مؤخرًا عن ناشطين شمال شرقي سوريا، وصول عشرات الشاحنات التي تحمل مساعدات “غير عسكرية” إلى محافظة الرقة مقدمة من المملكة العربية السعودية إلى “وحدات حماية الشعب” الكردية نكاية فقط في تركيا بسبب تباين مواقفهما بشأن أزمات المنطقة.
قبلها بأيام كان تراجع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن سحب قواته من سوريا، بعد تصريحات مثيرة، لابن سلمان أعلن خلالها أنه يدعم “بقاء القوات الأمريكية في سوريا على المدى المتوسط”، جاءت في أعقاب تصريح للرئيس الأمريكي، قال فيه إن قواته البالغ عددها نحو 2000 جندي ستغادر سوريا في وقت قريب، وأضاف أنه يريد الخروج من سوريا “لكن إذا كانت السعودية تريد بقاء القوات الأمريكية في سوريا فعليها دفع فاتورة بقائها”.
تلك الفاتورة التي سددها الأمير الشاب تأتي امتدادًا لسلسلة من الفواتير التي حولت المملكة إلى بقرة تحلبها واشنطن متى وكيف شاءت.
فخلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة كشف “بن سلمان”، عن تدشين خطة استثمارات بين المملكة والولايات المتحدة بإجمالي 200 مليار دولار، وفي كلمات شديدة الرمزية والإيحاء، قال ترامب لدى استقباله وفد المملكة: “السعودية بلد ثري جدًّا وستعطي الولايات المتحدة بعضًا من هذه الثروة، كما نأمل، في شكل وظائف وشراء المعدات العسكرية”.
الصفقة الجديدة تأتي بعد أقل من عام على الصفقة التاريخية التي أعلنها “ترامب”، أثناء زيارته للسعودية مايو الماضي، بقيمة تجاوزت 400 مليار دولار بينها 110 مبيعات أسلحة.
مجلة “The American Conservative”، كتبت: “يبدو أن حماية حياة الجنود الأمريكيين والمصالح الأمريكية لا تهم “ترامب” طالما أن هناك من يعرض دفع الثمن”، وتابعت: “هذا يعني أن “ترامب” يعتقد أن خدمات الجيش الأمريكي متاحة للاستئجار من قبل زبائننا المستبدين متى ما يقدمون قدرًا كافيًا من المال”.
صفقات التسليح كانت مجالًا آخر لإنفاق المال السعودي من أجل شراء مواقف القوى الكبرى، ففي فبراير الماضي، أعلن السفير السعودي في روسيا “رائد قريملي” في تصريحات صحفية، أن المفاوضات حول توريد صواريخ إس- 400 الروسية إلى المملكة بلغت مراحلها الأخيرة، بعد أن وافقت وزارة الخارجية الأمريكية على صفقة محتملة لبيع نظام “ثاد” الدفاعي الصاروخي إلى السعودية، في صفقة تبلغ قيمتها 15 مليار دولار.
وفي 2016، قالت صحيفة “لا تريبيون” الفرنسية، في مارس، إن السعودية ستوقِّع عقود أكبر صفقة سلاح من نوعها مع فرنسا، تتجاوز قيمتها أكثر من 10 مليارات يورو، وتضم 250 مدرعة و7 مروحيات من طراز “كوجار”، و24 مدفعًا ثقيلًا ذاتي الدفع من طراز “كايزر”، و5 زوارق “كورفت”، فضلًا عن 4 أقمار صناعية للاتصالات العسكرية والرصد.
شركة “آي إتش إس” للأبحاث والتحليلات الاقتصادية، قالت إن مشتريات السعودية من السلاح قفزت بمعدل كبير، لتصبح المملكة المستورد الأول للسلاح على وجه الأرض في 2015، بقيمة 9.3 مليار دولار، بارتفاع نسبته 50% عن العام السابق.
ولا تزال أمول السعودية والإمارات تتدفق على متلقي الرشاوى من جنودهما المجندين في الأوساط الحقوقية الدولية، من أجل تحسين صورتيهما المشوهة، وستر العورات التي كشفتها انتهاكات واسعة يمارسانها خاصة في حرب اليمن وحصار قطر.
“بن سلمان” يفضح والده!
هل فلسطين فعلًا والقدس في وجدان السعوديين كما قال العاهل السعودي؟.. بالأفعال لا بالأقوال يرد “بن سلمان” على والده، ويجيب على التساؤل بسلسلة من المواقف السرية والمعلنة التي تفضح حقيقة موقف الرياض من القضية الفلسطينية عمومًا، لعل آخرها ما أشير إليها سابقًا من تصريحاته المستفزة بشأن التطبيع مع الاحتلال.
في فبراير الماضي، بعث “محمد عبدالكريم العيسى”، أمين عام رابطة العالم الإسلامي، ووزير العدل السعودي السابق برسالة تضامنية إلى مديرة المتحف التذكاري للهولوكوست “سارة بلومفيلد”، وصف فيها المحرقة بأنها “جريمة نازية هزت البشرية في العمق وأسفرت عن فظائع يعجز أي إنسان منصف ومحب للعدل والسلام أن يتجاهلها أو يستهين بها”.
واحتفت صحيفة “هآرتس” العبرية بتعاطف الوزير السابق والمقرب من “بن سلمان”، واعتبرت أن هذا الموقف هو “ثمرة للحرب الشرسة التي يقودها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ضد التيار الديني”.
محطة أخرى أكثر خطورة تثبت بلا شك أن التوجه الرسمي السعودي ينطلق إلى التطبيع مع إسرائيل، فبعد نحو 10 أيام من القرار الأمريكي باعتبار القدس عاصمة للاحتلال، أطلق وزير الخارجية السعودي تصريحات جاءت وسط عاصفة هجومية غير مسبوقة على المستويين العربي والإسلامي شعبيًّا ورسميًّا ضد القرار، لكن الوزير تطوع للدفاع عنه بقوله: إن “إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جادة بشأن إحلال السلام بين الإسرائيليين والعرب”.
وعلى مدار الأشهر الماضية، بدا من خلال عدة وقائع رصدها وحللها (العدسة) أن السعودية تهرول حثيثة وبخطوات متسارعة نحو التطبيع الكامل مع الاحتلال الإسرائيلي.
وبعيدًا عن الشواهد غير الرسمية وتلك التي يكون أبطالها أشخاصًا ليسوا في منظومة الحكم أو يتمتعون بحيثية كبيرة، أكد مسؤول إسرائيلي، رفض الكشف عن اسمه، لوكالة الصحافة الفرنسية إن المسؤول السعودي الذي زار إسرائيل سرًّا في شهر سبتمبر الماضي هو ولي العهد محمد بن سلمان.
وفي نوفمبر نشرت مجلة “فوين بوليسي” الأمريكية تقريرًا، وصفت فيه ولي العهد السعودي بأنه “رجل إسرائيل في السعودية”، وقالت إن “بن سلمان” عنصر “يمكن الاعتماد عليه في مشروع أمريكي إسرائيلي طويل الأمد لخلق شرق أوسط جديد”.
“حلّوا عنا”.. بهاتين الكلمتين وجه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس رسالة مبطنة إلى كل من السعودية والإمارات، بعد كشفه عن أحدث تجليات موقفيهما بشأن القرار الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، ولعل تصريحات “عباس” تأتي كمزيد من التأكيد على الدور المشبوه الذي تلعبه قيادات البلدين، خاصة السعودية، في الملف الفلسطيني منذ صدور القرار الأمريكي بشأن القدس.
لكن ليست هذه هي المرة الأولى التي تفضح تصريحات قيادات فلسطينية حقيقة الموقف السعودي الرسمي بشأن القدس والقضية الفلسطينية برمتها، فقبلها كانت هناك تصريحات على لسان عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، “أحمد مجدلاني”، حيث أكد أن القيادة الفلسطينية تم إبلاغها بـ”صفقة القرن” عبر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
“المجدلاني” قال في تصريحات متلفزة، إن مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وصهره “جاريد كوشنر”، نقل تفاصيل الصفقة لولي العهد السعودي، الذي نقلها بدوره إلى السلطة الفلسطينية.
وربما لا يمكن وضع تصريحات “عباس” في سياقها الصحيح بعيدًا عن ربطها بما كشفته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية حول لقاءه بولي العهد السعودي في نوفمبر الماضي، الصحيفة نقلت عن مصادر رسمية فلسطينية وعربية وأوروبية، قولها إن “بن سلمان” اقترح على الرئيس الفلسطيني، خطة ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وصفتها بأنها منحازة لإسرائيل أكثر من خطة “ترامب” نفسه.
وذكرت أن “بن سلمان” اقترح خطة تكون فيها الدولة الفلسطينية مقسمة إلى عدد من المناطق ذات حكم ذاتي، وتبقى المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة “ملكًا” لإسرائيل، وتكون “أبوديس” عاصمة فلسطين وليس القدس الشرقية المحتلة، وكذلك لن يمنح حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
المصادر أكدت أن “بن سلمان” عرض على “عباس” أموالًا طائلة للسلطة الفلسطينية وله شخصيًّا في حال قبوله بالمقترح، كما طالبه بالاستقالة في حال رفض هذا العرض.
وربما ليس أدل على هامشية قضية القدس بالنسبة لحكام السعودية، خلافًا لما هو معلن، هو التمثيل المتدني للمملكة في القمة الطارئة لمنظمة التعاون الإسلامي في مدينة إسطنبول التركية حول القدس، ديسمبر الماضي.
تقارير إعلامية نقلت عن وزير الاستخبارات الإسرائيلي “يسرائيل كاتس”، قوله إن “ترامب” أجرى سلسلة اتصالات مع الزعماء العرب، قبل إعلان قراره، واستبعد الوزير بحكومة الاحتلال أن يكون للسعودية ردود فعل سلبية تجاه قرار “ترامب” تؤثر على تحالفها مع إسرائيل.
الموقف السعودي لم يكن متجاهلًا لقضية القدس فحسب، بل متواطئًا فيها مع أمريكا والاحتلال الإسرائيلي، ولعل هذا ما كشفته القناة العاشرة بالتليفزيون الإسرائيلي، التي قالت إن قرار الرئيس الأمريكي بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، “لا يمكن أن يتم دون التنسيق عربيًّا”.
وكشف مراسل القناة العبرية أن كلًّا من السعودية ومصر “أعطتا “ترامب” الضوء الأخضر لتنفيذ قراره ونقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، تمهيدًا للقرار الكبير بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل”، وفق تقارير إعلامية.
وتابع المراسل: “ومن المؤكد أن إعلان “ترامب” وبداية إجراءات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والتي يعتقد البعض أنها قد تشعل المنطقة، لم يكن ممكنًا أن يتم دون التنسيق مع السعودية ومصر، فالفلسطينيون يدفعون ثمن التغييرات الكبرى في المنطقة”.
فهل يصر العاهل السعودي بعد كل تلك الوقائع، التي ربما كان ما خفي منها أعظم، على القول بأن فلسطين والقدس في وجدانه؟.
اضف تعليقا