موقع جغرافي مميز ربما لا تنافسها فيه أية دولة حول العالم، أهمية إستراتيجية قصوى، هدوء واستقرار وسط منطقة ملتهبة، ممر للتجارة العالمية، منطلق لعمليات مكافحة الإرهاب والقرصنة.. وغيرها من العوامل التي فتحت شهية الدول الكبرى من أجل إنشاء قواعد عسكرية فيها.

“جيبوتي”.. تلك الدولة العربية الأفريقية الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 23 ألف كيلو متر مربع، ويسكنها نحو 380 ألف نسمة، استثمرت تلك العوامل لتعويض فقرها في الموارد الطبيعية، ليدر عليها تأجير القواعد العسكرية نحو 160 مليون دولار سنويًا.

القواعد العسكرية كانت ترتبط على مدار عقود بمفاهيم السيطرة والاحتلال والاستعمار، لكن القواعد في جيبوتي لا علاقة لها بالسياسة الداخلية للبلاد لا من قريب ولا من بعيد، لكنها ترتبط بحماية الأمن الدولي الذي يضاعف من أهمية خليج عدن ومضيق باب المندب، بحسب وزير الخارجية الجيبوتي محمود علي يوسف.

جيبوتي.. الكنز

يكتسب مضيق باب المندب – الذي تقع جيبوتي على شاطئه الغربي – أهمية دولية كممر مائي دولي، تشقه ناقلات النفط في طريقها من منابع الجزيرة العربية وإيران إلى أوروبا وأمريكا الشمالية عبر قناة السويس.

ومما يعزز تلك الأهمية كونه الممر الرئيسي للصادرات النفطية الخليجية والمنتجات الواردة من دول شرقي آسيا، وكونه مفتاح الملاحة البحرية في البحر الأحمر، فضلًا عن أنه يربط بين خليج عدن والبحر الأحمر.

تعبر المضيق سنويًا 21 ألف قطعة بحرية تمرر من خلاله نحو 30% من نفط العالم أي نحو 3.3 مليون برميل، كما تعبر منه سنويًا 12 مليون حاوية بضائع تشكل نحو 10% من حجم التجارة العالمية.

الشواطئ الجيبوتية تستخدم الميناء كنقطة انطلاق الأساطيل الأجنبية المتواجدة في المنطقة بهدف مراقبة خليج عدن وحماية الممر المائي من عمليات القرصنة، فضلًا عما ألقاه الصراع في اليمن (صاحبة الشاطئ الشرقي للمضيق) خلال السنوات الأخيرة من ثقل وأهمية أكبر لهذا الممر.

وثمة أهمية محورية لجيبوتي في منطقة القرن الأفريقي، حيث يدخل خليج “توجورة” عمق البر الجيبوتي لمسافة 61 كم لتمثل منطقة آمنة للإبحار تجاه البحر الأحمر، تعبر فيها أهم الصادرات والواردات العالمية، ما زاد من أهميتها كونها من المحاور الرئيسية للتجارة العالمية، فأكثر من 80% من السلع التي تستوردها جارتها إثيوبيا، يتم إفراغها في ميناء “دوراليه”، أحد أكبر موانئ المياه العميقة في شرق أفريقيا.

وساعد قربها من المناطق الملتهبة في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط في إضفاء المزيد من الأهمية الإستراتيجية على هذا الكيان الصغير، ما أهلها لأن تكون أهم دولة في مجال تأمين طرق التجارة وكنقطة انطلاق لمكافحة الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي.

فرنسا.. قاعدة بطعم الاستعمار

من بقايا الاستعمار، مثلت القاعدة العسكرية الفرنسية في جيبوتي الوجود العسكري الأقدم في البلاد، حيث سيطر الفرنسيون على جيبوتي عام 1850، وظلت تحت الهيمنة الفرنسية قرابة المائة عام، إلى أن أعلنت استقلالها لكن بصورة غير مكتملة، حيث رفضت فرنسا أن تتركها دون ضمان بقاء بعض قواتها بها.

لهذا السبب أبرمت فرنسا وجيبوتي اتفاقية عسكرية تسمح بتواجد ما بين 3800 و4500 جندي فرنسي على الأراضي الجيبوتية، تم تقليص العدد إلى أكثر من 1500 جندي كجزء من قوات حفظ الأمن.

وتعد القاعدة العسكرية الفرنسية في جيبوتي، أهم قاعدة للفرنسيين في القارة السمراء، مهمتها كما هو معلن حماية حركة التجارة عبر مضيق باب المندب، فضلًا عن الاشتراك في حماية جيبوتي من أي اعتداء خارجي أو داخلي، وهو ما حدث في مساعدتها في القضاء على التمرد عام 2001.

الوجود العسكري الفرنسي في جيبوتي ساهم أيضا في دعم المنظومة الاقتصادية والمعيشية للشعب الجيبوتي، حيث أفادت بعض التقارير الرسمية أن المساهمة الاقتصادية لعناصر هذه القوات وأفراد عائلاتهم في جيبوتي تمثل قرابة 130 مليون يورو، أي حوالي 25% من إجمالي الناتج الداخلي وما يساوي 65% من الموازنة.

القاعدة التي تحمل اسم “فورس فرانسيس جيبوتي (ffdj)”، محاطة بأسوار عتيقة عليها أسلاك شائكة، وتتكون من جزأين: مقر الإدارة على اليمين، ومقر القوات والآليات الحربية على اليسار، ويقع بينهما ميدان صغير تعبر منه سيارات سكان المدينة.

معسكر “لامونيير” الأمريكي

تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية قاعدة عسكرية وحيدة في أفريقيا، تقع جنوبي مطار “أمبولي” الدولي بجيبوتي، وهي قاعدة “لامونيير”، وبها ما يزيد عن 3 آلاف جندي أمريكي، وأنشئت في 2002، لمراقبة المجال الجوي والبحري والبري للسودان وإريتريا والصومال وجيبوتي وكينيا، واليمن، وتمويل وتدريب جنود جيبوتي.

وفي مايو الماضي أمدت وزارة الدفاع الأمريكية إيجار القاعدة لعشر سنوات قادمة، وتصل تكلفة الإيجار في العقد الجديد إلى حوالي 60 مليون دولار سنويًا، بدلا من 30 مليونًا.

ومن هذه القاعدة، تنطلق عمليات “مكافحة الإرهاب” التي ينفذها الجيش الأمريكي في الصومال، حيث “حركة شباب المجاهدين” المسلحة، وفي اليمن، ضد تنظيم القاعدة، إضافة إلى الحفاظ على المصالح الأمريكية في القارة.

في عام 2007 أسست وزارة الدفاع الأمريكية ما أسمته (القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا – أفريكوم) (USAFRICOM) وهي وحدة مكونه من قوات مقاتلة موحدة تحت إدارة وزارة الدفاع الأمريكية، ومسئولة عن العمليات العسكرية الأمريكية وعن العلاقات العسكرية مع 53 دولة أفريقية في أفريقيا عدا مصر، حيث تقع في نطاق القيادة المركزية الأمريكية.

قوات الاتحاد الأوروبي لمكافحة القرصنة

الاتحاد الأوروبي هو الآخر لم يكن بعيدًا عن السباق، حيث شكلت بعض دول الاتحاد قوة مشتركة أطلق عليها اسم “العملية الأوروبية لمكافحة القرصنة – أتلانتا”، مهمتها تتركز في العمل على تطويق جرائم القرصنة في مضيق باب المندب، ومراقبة حركة التجارة بها.

الاتحاد سمح بوجود مئات الجنود من 8 دول أوروبية هي: ألمانيا، بلجيكا، أسبانيا، فرنسا، اليونان، هولندا، بريطانيا والسويد.

اليابان على الخريطة

خريطة التواجد العسكري في جيبوتي لم تفلت منها اليابان، ففي عام 2009 أنشأت البحرية اليابانية قاعدة عسكرية في جيبوتي، تمكنها من المشاركة في التصدي للقراصنة الصوماليين، بما في ذلك ميناء دائم ومطار لإقلاع وهبوط طائرات الاستطلاع اليابانية.

وبدأت اليابان في التخطيط لتوسيع قاعدتها العسكرية بالتزامن مع محاولة لزيادة استثماراتها في أفريقيا أيضًا، وبدلًا من الاعتماد على منشآت عدة مستأجرة من القوات الأمريكية، تسعى اليابان إلى الحصول على مزيد من الأراضي للتوسع.

وخلال السنوات الخمس الأخيرة، ارتفع عدد الجنود اليابانيين في جيبوتي، الذين يطلق عليهم اسم “قوات الدفاع المدني”، من نحو 150 عنصرًا إلى 400 عنصر، ويقيمون في منشآت على مساحة تبلغ نحو 30 فدانا، ويتنقلون عبر أربع طائرات من طراز “بي 3 سي”، واثنتين على الأقل من المدمرات البحرية اليابانية التي تشارك في تأمين مئات السفن التجارية وتراقب نشاط القراصنة والعناصر المشبوهة في خليج عدن.

 التنين الصيني حاضر

التنين الصيني كان حاضرًا على تلك الخريطة المعقدة، حيث أعلن في فبراير 2016 رسميًا البدء في تشييد قاعدة لوجيستية في جيبوتي، كأول منشأة عسكرية للصين في الخارج.

وتنوي بكين نشر قرابة 10 آلاف عسكري في هذه القاعدة، التي ستدفع أكثر من 20 مليون دولار سنويًا مقابل استئجارها، على أن يستمر العقد بين البلدين لمدة 10 سنوات.

اليمن تحرك السعودية

الحرب التي تقودها السعودية منذ مارس 2015 في اليمن تحت لافتة التحالف العربي لدعم الشرعية لمواجهة الحوثيين المدعومين من إيران، دفعت المملكة إلى السعي للتواجد قبالة السواحل اليمنية على مضيق باب المندب.

وزير خارجية جيبوتي، قال إن الرياض تسعى من خلال القاعدة المزمع إنشاؤها إلى دعم تحالفها العربي العسكري في اليمن، وترسيخ أقدام الحكومة اليمنية الشرعية.

التعاون بين البلدين لن يقتصر على إنشاء قاعدة عسكرية فقط، بل سيشمل التعاون في كل الجوانب العسكرية بريًا وبحريًا وجويًا.