في صباح يوم مشمس في أبريل من العام 2011، وقف كل من غابريلا سوتومايور نائب رئيس اتحاد الصحفيين الدوليين المعتمدين لدى الأمم المتحدة، وجون ساروكوستا الرئيس السابق لاتحاد الصحفيين الدوليين المعتمدين لدى الأمم المتحدة، أمام مقر الأمم المتحدة في جنيف، يقودون المحتجين على انتهاكات الأنظمة العربية بحق قناة الجزيرة القطرية والعاملين فيها.
وبين الجموع، ظهر على استحياء وجه شاب يبدو أنه ما يزال في أيامه الأولى في أوروبا، بملامح يغلب عليها الانبهار والبحث عن فرصة للظهور، ودون أن يمل من رفع شعار الجزيرة الذي ظل يحمله على اللافتة التي يرفعها فوق رأسه في ثبات.
كان هذا الشاب هو “سرحان الطاهر سعدي”، الذي عرّف نفسه وقتها بأنه “رئيس اللجنة السياسية لمنظمة المهاجرين الأفارقة في أوروبا”، كيان حين تبحث عن متعلقاته على شبكة الإنترنت باللغتين العربية والإنجليزية، لن تجد أية نتائج سوى خبر حضوره تظاهرة المتضامنين مع الجزيرة القطرية.
سرحان الطاهر سعدي
تمر السنوات، ويختفى سعدي عن المشهد، ثم يظهر فجأة قياديا بكيان جديد، له من الحضور مثل ما لمنظمته السابقة، لكن أجندته هذه المرة مختلفة تماما، فلا تدافع “الفيدرالية العربية لحقوق الإنسان” الآن عن الجزيرة ولا عن قطر، وإنما تعتبرهما داعمتين للإرهاب.
وبين هذا المشهد وذاك، تبقى عشرات الأسئلة تدور حول سعدي وولاءاته المتغيرة وكياناته الوهمية المتكررة، وأين اختفى هذه السنوات قبل أن يغيّر جلده في ظهوره الأخير.. بيد أن الإجابات كلها تشترك في كلمة واحدة.. الإمارات.
فتش عن الإمارات
للإمارات العربية المتحدة رائحة تفوح عالميا في انتهاكات حقوق الإنسان، ولم تستطع أبراجها العالية أن تٌخفى وجهها القبيح القابع خلف جدران السجون السرية التي يغيب فيها عشرات الشبان والناشطين والمعارضين من داخل الإمارات وخارجها.
سوءات الإمارات المكشوفة، أحرجتها دوليا عدة مرات منذ سنوات، وبدا واضحا أنه لا بد لآل زايد من تبني خطة واضحة وسريعة لتجميل وجهها المفضوح، فكان أن أطلقت “الفيدرالية العربية لحقوق الانسان”، التي يمكن ببساطة اعتبارها ناطقا رسميا حقوقيا باسم نظام أبو ظبي.
“تجربة الإمارات الأفضل عربيا في حقوق الإنسان”.. قبل هذا التصريح الذي نُسب إلى “الفيدرالية” بتاريخ فبراير 2017، يستحيل أن تجد أي حضور لاسمها على شبكة الإنترنت، ميلاد مجهول لكيان حقوقي إماراتي ظهر فجأة لدعم النظام دون تورية.
لاحقا، بدأ دوره في التوسع يزداد شيئا فشيئا، وأصبح على الإمارات البحث عن وجوه جديدة تلبسها رداء الفيدرالية الحقوقي، ووجدت الإمارات مبتغاها في سرحان الطاهر سعدي، ليمثلها في الخارج، ورفيقه أحمد الهاملي، رجل الأعمال الإماراتي المؤيد للنظام، والذين سيتقاسمان قيادة الكيان، ويصبحان فجأة “أكبر حقوقيين” تابعين للإمارات العربية المتحدة!.
أحمد الهاملي و سرحان الطاهر السعدي
أما حكاية أحمد الهاملي، فغير مشوقة على الإطلاق، فهو عضو بارز في أجهزة الأمن الإماراتية، ويدير منظمة تدعى “ترندز″ للبحوث والاستشارات التي “تعمل مع شخصيات ومنظمات داعمة للاحتلال الإسرائيلي مثل السفير السابق “ألبرتو فرنانديز″، أحد صناع القرار فى معهد بحوث الشرق الأوسط”.
وبالحديث عن المعهد، فإن وظيفته الرئيسية تتمثل في الترويج لـ”إسلاموفوبيا”، لكن لا بأس من أن يقود فرنانديز زواجا غير شرعي بين “فيدرالية” سعدي و”ترندز” الهاملي تلبية لـ “جهود” الإمارات نحو وسم قطر بالإرهاب.
قاد سعدي خطة الانتشار، وبدأ في تسويق الفيدرالية خارجيا باعتبارها كيانا ضاربا في العمل الحقوقي العربي، موزعا ما كان الهاملي يجود به من بيانات حقوقية يتوقف دورها دائما عند الإشادة بإنجازات نظام أبو ظبي في المجال الحقوقي.
لم يصدر عن الفدرالية بيانا واحدا يدعم أي قضية حقوقية شعبوية في المجتمع العربي، وتلخصت كل بياناتها في الرد على “مزاعم” المجتمع الدولي حول انتهاكات نظام الإمارات الحقوقية، وظلت هكذا حتى تغيرت الأمور في الخليج، وبدأ حصار قطر في تجميع دول الحصار جنبا إلى جنب، لتتورط المملكة العربية السعودية في اللعبة المفضوحة.
السعودية في المستنقع
كم تفضح البيانات المشتركة من مؤامرات! هذا ما حدث بعد مؤتمر المعارضة القطرية الوهمية في بريطانيا، حين خلص المؤتمر إلى بيان حقوقي مشترك وقّع عليه الهاملي ممثلا عن الإمارات، ليظهر إلى جواره اسم بطل جديد ممثلا عن السعودية، عبد الرحمن نوفل.
لم يكن غريبا أن تكون حكاية نوفل مستنسخة عن حكاية الهاملي وسعدي، ففي وقت تقود فيها الإمارات قرار المملكة، لم يكن مستغربا أن تقود كذلك خطة تقويض اسم المملكة في تلك الفضائح الكبيرة، لا سيما وأن مضامين البيان المشترك قد جاءت تحمل الرسالة نفسها: الإمارات الأفضل عربيا في حقوق الإنسان، والأهم أنها أفضل من قطر!
عبدالرحمن نوفل
وسبق أن نشرت “العدسة” تقريرا حول نوفل، كشفت فيه عن حكاية الشاب الفلسطيني اللاجئ في أوروبا بعد سنوات من العمل لحساب الفضائية الإخبارية السعودية، قبل أن يتحول كليا بعد لقاء جمعه بوزير الخارجية السعودية عادل الجبير، ونشر نوفل (واسمه الحقيقي عبد الرحمن شوشار) صورة توثق هذا اللقاء.
حقوقيون خفافيش
ويبدو أن بقاء الثلاثي (الهاملي – سعدي – نوفل) مرهون بإخفاء هوياتهم ومحو أي آثار لتاريخهم، الأمر الذي كشف عنه ردة فعل “نوفل” المبالغ فيها بعد نشر تقرير العدسة السابق عنه، حيث عمد إلى إغلاق كافة حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما أدرك أن أحدا يبعثر في أوراقه القديمة.
وكشف تقرير “العدسة” عن أن نوفل لم يتحصل على أية شهادة جامعية، فضلا عن أن يكون لها علاقة بالقانون أو العمل الحقوقي، وأنه لاجيء في جينيف منذ سنوات ويعيش حياة رفاهية كبيرة حسبما أظهرت الصور التي نشرها على حسابه في أنستغرام بصحبة رفيقاته “الجينيفيات”.
وأكد التقرير أن الفضيحة الأبرز كانت لحظة تحوّل شوشار (أو نوفل) إلى حقوقي بارز، ومدير لكيان حقوقي كبير، فقد كشفت صورة له على حسابه القديم جمعته بوزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، الأمر الذي أثار شكوكا حول علاقته بالاستخبارات السعودية وأجهزتها الأمنية.
وزير خارجية السعودي عادل الجبير
وبين التقرير أن شوشار كان يعمل -حتى وقت قريب- مراسلًا للفضائية الإخبارية السعودية الرسمية، حيث ما تزال صوره في منصة موقع القناة على الإنترنت حتى اللحظة، بينما أخوه الأكبر –وشريك “نضاله” الحقوقي الوهمي- يعمل مراسلا لصالح النسخة الاقتصادية السعودية منها.
حصار قطر كشف خيوط اللعبة
غيّر حصار قطر كل شيء في الخليج، وفي حالة متلونة مثل سعدي والهاملي ونوفل، لم يكن من الصعب أن يطالهم هذا التغيير، فسرعان ما صدر عنهم أول بيان يتناول شأنا حقوقيا غير إماراتي في أوج اعتداءات الكيان الصهيوني على الأقصى، لكن البيان لم يكن عن إسرائيل، وإنما عن قطر!.
وحدها كيانات الإمارات والسعودية الحقوقية استطاعت الكشف عن حرب الشوارع الواقعة في الدوحة، حيث تنتشر القوات التركية فارضة حظر التجول على الجميع، ضاربة بيد من حديد آلاف المتظاهرين القطريين الثائرين ضد النظام القطري، وسط تأكيد الفيدرالية تسجيلها مئات الحالات من الاعتقالات والاختفاء القسري في السجون القطرية.
منذ بدء أعمال الدورة الـ 36 لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، بدا ملحوظا –كما قالت الهيئة المستقلة لمراقبة الأمم المتحدة- أن مؤسس ورئيس الفيدرالية العربية لحقوق الإنسان الإماراتي أحمد الهاملي يدفع آلاف الدولارات لمنظمات غير حكومية في سبيل تنظيم فعاليات مناهضة لقطر وداعمة للإمارات، بعدما قابل فريق الهيئة عددا من الناشطين فى المجال الحقوقي والمؤسسات ذات الصفة الاستشارية مع الأمم المتحدة، ولاحظ الفريق خلال فترة تحقيقه، أن هنالك تعبئة وضغطا سياسيا يرقى وصفه “باللاأخلاقي” والذي تمارسه السعودية والإمارات وإسرائيل ضد قطر.
تضليل متعمد
لا تهتم المنظمات الحقوقية كثيرا بالبواعث السياسية الدافعة للتضليل، وإنما يهمها في المقام الأول صدق المعلومات المقدمة إليها، وبحسب الهيئة، فإن الإمارات والسعودية وإسرائيل تقوم بتضليل الرأي العام بشكل غير مسبوق وذلك عن طريق تزويد المجلس بمعلومات مضللة والضغط على المقررين الخاصين التابعين لمجلس حقوق الإنسان.
محمد بن زايد
مبنى مجلس حقوق الإنسان
وكشف التحقيق عن أن أبرز تلك الجهود التضليلة تتزعمها الإمارات بتوظيفها عددًا من الأساليب المخالفة لأعراف العمل داخل الأمم المتحدة، بالإضافة لانتهاك القوانين المالية والتجارية السويسرية والأوروبية، حيث رصد التقرير جهودا غير أخلاقية يقوم بها مندوبو الإمارات الذين يتظاهرون بالعمل تحت غطاء مؤسسات المجتمع المدني، في حين يشكل هؤلاء المندوبون جزءاً من منظومة الأجهزة الأمنية الإماراتية.
كما خلص الباحثون إلى أن “الفدرالية العربية لحقوق الإنسان” متورطة بشكل أساسي في تقديم رشاوى لأفراد ومنظمات غير حكومية للقيام بشن حملة ممنهجة ضد قطر، من خلال ربطها برعاية وتمويل الإرهاب وانتهاك حقوق العمالة الآسيوية.
وأضاف الباحثون أن “ما يثير الصدمة أن الإمارات قامت بدفع مبالغ من الأموال لعدد من اللاجئين الأفارقة فى سويسرا، ليحتجو ضد قطر (التى لا يعلمون عنها شيئاً)، وقدّر باحثو الهيئة أن إجمالي ما دفعته الفيدرالية من رشاوى وصل لأكثر من 250 ألف دولار، كانت من نصيب أفرادٍ ونشطاء داخل مجلس حقوق الإنسان مقابل التحدث ضد قطر، كما دفعت الجمعية نحو 180 ألف دولار لطالبي اللجوء الأفارقة في جنيف للمشاركة في احتجاجات ضد قطر.
نهاية متوقعة
لم يكن صعبا على المجتمع الدولي الكشف عن تلك الأكاذيب الحصرية للإمارات والسعودية، لتنتهي القصة بتقديم مذكرات رسمية لاعتقال بعضهم، وملاحقة البعض الآخر قضائيا، بعد انكشاف تلاعبهم بالأدلة المقدمة إلى الاجتماعات الحقوقية الدولية في جنيف.
فقد أعلنت الهيئة المستقلة لمراقبة الأمم المتحدة ومقرها جنيف ونيويورك أنها تقدمت الثلاثاء برفقة حقوقيين سويسريين بطلب إلى الشرطة السويسرية من أجل اعتقال كل من سعدي المقيم في سويسرا والمنسق العام لجمعية محلية إماراتية متورطة في تقديم رشى وغسيل أموال تدعى “الفيدرالية العربية لحقوق الانسان”، إضافة إلى “الهاملي” الذي يقف خلف ذات الجمعية بجانب منظمة أخرى تدعى “ترندز″ للبحوث والاستشارات.
وتقدمت الهيئة -بحسب بيانها- للشرطة السويسرية بتقرير تفصيلي مدعم بالأدلة وإفادات الشهود حول قيام الاشخاص المتهمين بتوزيع رشى داخل الأراضي السويسرية، وداخل مقرات الأمم المتحدة إضافة إلى نقل أموال والعمل بصورة غير قانونية، مطالبة بالتحقيق حول كيفية إيصال تلك الجمعية للأموال إلى جنيف وكيفية إنفاقها، بجانب معاقبة بعثة الإمارات لدى الأمم المتحدة لقيامها بإجراءات غير قانونية من خلال دعم تلك الجمعية.
اضف تعليقا