أعوام مرت على الانقلاب التركي العسكري الفاشل الذي وقع أواخر عام 2016 وتصدت له بنجاح الدولة، وما يزال عسكر تركيا متشبثا بمحاولة الانقضاض على الدولة المدنية بكل طريقة ممكنة، في تحد مستمر يواجه أي حكومة مدنية تعتلي الحكم في البلاد، سواء كان توجهها إسلاميا أو علمانيا، وهو الخطر الذي فطنت إليه حكومة الرئيس أردوغان منذ توليه زعامة البلاد.

البداية مع بيان أصدره 103 من الضباط والجنرالات المتقاعدين من الجيش التركي، أغلبيتهم من قوات البحرية، أبدوا فيهم اعتراضهم على مشروع قناة إسطنبول المائية، مما أثار ردود فعل غاضبة على المستوى الشعبي والرسمي بين التركيين الذين اعتبروا البيان بمثابة تدخل من العسكريين في الشؤون السياسية للدولة.

بيان الضباط الرافضين لمشروع القناة المائية بإسطنبول، حذروا في البيان مما اعتبروه “مساساً” باتفاقية مونترو الموقعة في العام 1936، والمتعلقة بنظام المضائق البحرية التركية، ودعا أيضاً إلى المحافظة على هيبة القوات التركية، وقال إنه “من الضروري أن يحافظ الجيش التركي بجد على القيم الأساسية للدستور، والتي لا يمكن تغييرها ولا يمكن اقتراح تغييرها، كما ندين ابتعاد القوات البحرية التركية عن هذه القيم وعن المسار المعاصر الذي رسمه أتاتورك”. 

هجوم لاذع

وما إن خرج البيان المشبوه إلا وقوبل بهجوم واسع من قبل الأتراك على شبكات التواصل الاجتماعي، وعلى على المستوى الرسمي، فقد قالت وزارة الدفاع التركية، إنه “لا يمكن استخدام الجيش كوسيلة لتحقيق الغايات الشخصية لأولئك الذين ليس لديهم أي مهمة أو مسؤولية”، وفقاً لما أوردته وكالة الأناضول التركية الرسمية. 

وانتقدت الوزارة بياناً صدر عن الضباط المتقاعدين، وقالت إنه من “الواضح أن نشر مثل هذا البيان لن يؤدي إلا إلى إلحاق الضرر بديمقراطيتنا”، وشدّدت على أنه لا يمكن استخدام القوات المسلحة كوسيلة لتحقيق الغايات والأطماع والآمال الشخصية.

كذلك أكّد بيان وزارة الدفاع التركية، أن “الذين لا يرون ولا يريدون أن يروا إنجازات الجيش التركي الذي يعد جسداً واحداً بقواته البرية والبحرية والجوية، هم أولئك الذين أعماهم الطمع والجشع والحسد”.

تحقيق رسمي 

من جانبه، وصف نائب الرئيس أردوغان، فؤاد أوكتاي، من أصدر البيان بأنهم “جبناء وعاشقون للانقلاب”، وذلك في تغريدة له على حسابه في موقع تويتر، وقال إن هؤلاء “لم يتمكنوا بعد من هضم الإرادة الشعبية”، وقال إن النيابة العامة في أنقرة فتحت تحقيقاً حول بيان الضباط المتقاعدين.

بدوره، أكد رئيس دائرة الاتصالات في الرئاسة التركية، فخر الدين ألتون أن الشعب “أظهر للصديق والعدو في 15 يوليو من عام 2016 كيف داس على الانقلابيين”، مضيفاً: “اعرفوا حدودكم”، وتابع: “تداعى عدد من المتقاعدين على إصدار بيان أثار حماسة الطابور الخامس فوراً، اجلسوا مكانكم، تركيا القديمة التي تتحدثون عنها باتت في الماضي، تركيا دولة قانون فمن أنتم، وبأي حق تشيرون بأصابعكم إلى إرادة الشعب الشرعية، تركيا دولة قانون لا تنسوا ذلك”.

أما وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، فقال إنه يمجد من يرتدون الزي العسكري في البلاد، الذين لا يستخدمون زيهم كأداة سياسية.  كذلك دعا رئيس الحركة القومية، دولت بهتشلي، إلى نزع الرتب العسكرية لمن يقف وراء هذا البيان. وأعرب رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب عن انزعاجه من بيان الضباط، وقال إن “التعبير عن الرأي يختلف عن الدعوة إلى الانقلاب وإعداد البيانات”.

سبب الصدام

وبإسقاط اعتبارات الرغبة في الانقلاب، وبالنظر إلى موضوع البيان نفسه، فإنه يبدو واضحا أن سبب الصدام هو مشروع “قناة إسطنبول”، الذي يدعمه الرئيس أردوغان، والذي يطلق عليه في الإعلام التركي اسم “مشروع العصر”، باعتبار أن هذا المشروع هو أضخم عمل سيتم إنجازه في تاريخ الجمهورية التركية؛ والذي أعلن عنه أردوغان لأول مرة حينما كان رئيساً للوزراء سنة 2011.

وتقول تركيا إن مشروع القناة سيعزز مكانتها في مجال المعابر المائية، لكونه سيربط بين بحر مرمرة والبحر الأسود في الشق الأوروبي من إسطنبول، وتهدف الحكومة التركية من خلال إنشاء قناة إسطنبول، إلى التخفيف من حركة السفن في مضيق البوسفور، كما تسعى إلى التقليل من الأضرار التي تبعثها السفن الناقلة للمواد الخطيرة، فضلاً عن إزالة الأبنية العشوائية الواقعة على المسار.

ويُشارك في إنجاز مشروع القناة وزارة النقل والملاحة البحرية، وعدد كبير من المؤسسات، أبرزها وزارات البيئة، وشؤون الغابات والمياه، والأغذية والزراعة والثروة الحيوانية، والطاقة والموارد الطبيعية، إلى جانب بلدية إسطنبول، وإدارة الإسكان الجماعي “توكي”، التابعة لرئاسة الوزراء التركية.

خصوصية المشروع

لكن يبرز سؤال: لماذا قد يُغضب مشروعا رائدا كهذا عسكر تركيا؟ الحقيقة هي أن القيمة الأهم للقناة تنبع من عدم خضوعها لاتفاقية مونترو، ما يسمح لتركيا بجباية 5.5 دولار عن كل طنٍّ من البضائع وحمولات السفن التي تعبرها يومياً.

كما تشير البيانات إلى أن عائدات القناة الجديدة ستغطي خلال عامين فقط تكاليف المشروع، البالغة نحو 15 مليار دولار، وستحوِّل مضيق البوسفور التاريخي إلى خطٍّ ثانوي للتجارة البحرية.

تقول التقارير الرسمية التركية إن القناة ستدرُّ على تركيا نحو 8 مليارات دولار سنوياً، تسهم في تعويضها عن 10 مليارات دولار حُرمت منها بفعل تسعيرة المرور المخفضة عن السفن التي تعبر مضيق البوسفور، تبعاً لاتفاقية مونترو.

هذه التطورات كلها تصب في اتجاه استقلال القرار التركي الذي سيصبح وجهة اقتصادية عالمية وممرا رئيسيا لطرق الشحن الأوروبية الآسيوية، بدون وصاية أو تدخل أوروبي، وهو أمر يزعج الجنرالات بطبيعة الحال، لأن أي استقرار لدولة مدنية، يعني ضمنيا، استحالة عودة تركيا للحكم العسكري مرة أخرى.