ترجمة مقال للصحفي والروائي روبين ياسين قصاب*
لطالما حلم السوريون بالتخلص من النظام الأسد، كان الحلم المنتظر منذ عقود، لكنه كان بعيد المنال، لم يكن من المتوقع أن يحدث هذا، لكن تحققت المعجزة وسقط الأسد ونظامه. وعلى مدى الأسابيع الماضية، جرب السوريون مجموعة كاملة من المشاعر الإنسانية الجديدة عليهم، فرح وانتصار وحرية، وفي أول جمعتين من أيام الحرية التي تحرر فيها الأسد، امتلأت الشوارع بالملايين من المحتفلين بالتحرير، مرددين الهتافات والأغاني الثورية، والتعبير عن رأيهم بصراحة والتحدث عن الحقائق المحظور سردها سابقًا. كان هناك حضور النساء لافتًا، بالرغم من أنهن أقل ظهوراً خلال سنوات الحرب… المشاهد نقلت لحظات اجتماع الأقارب مرة أخرى مخففين من آلامهم مع عودة مئات الآلاف من “معسكرات المنفى”.
وفي الوقت نفسه، يجد الملايين أنفسهم مضطرون إلى قبول حقيقة تعرض أحبائهم للتعذيب حتى الموت، ويبدو الآن أن معظم الـ 130 ألف شخص الذين فقدوا في سجون بشار الأسد (وهو الحد الأدنى) قد ماتوا، خاصة مع اكتشاف العشرات من المقابر الجماعية بالفعل.
كان أحد العوامل الرئيسية في السقوط النهائي للنظام هو الانضباط الملحوظ والذكاء الاجتماعي الذي أظهرته فصائل المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام مع الأيام الأولى للتحرير. عندما حُررت حُلب، لم يتعرض أحد من المسيحيين والنساء غير المحجبات للمضايقة، لم تتعرض الممتلكات العامة ولا الخاصة للنهب والتدمير، بل حتى المدن الشيعية التي استضافت ميليشيات أجنبية لم تتعرض لهجمات انتقامية، ما جعل عشرات الآلاف من جنود الأسد يشعرون بالأمان الكافي للانشقاق أو الفرار.
مع ذلك، لا يزال البعض يضمر شكوكًا عميقة حول زعيم هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، المعروف سابقًا باسم أبو محمد الجولاني. إنه يتمتع بكاريزما هائلة، وبالرغم من كونها ميزة يتغنى بها الشعب الآن، يرى بعض المحللون أنها قد تسهل الطريق إلى دكتاتورية جديدة، ولكن حتى الآن، كل العلامات تُظهر عكس ذلك، بل أصبح الشرع يتمتع بشعبية هائلة بسبب صفاته غير الدكتاتورية.
الواقع أن الدافع الأول لاعتدال هيئة تحرير الشام منذ اندلاع الثورة في عام 2011 كان حاجتها إلى القبول من قِبَل المجتمع السوري المعقد والمتعدد الثقافات. ولم يكن الشرع ليصل إلى ما هو عليه اليوم لو لم يتبع مساراً عملياً ومرنًا، وهو يعي ذلك جيدًا، وقد قال في حوار لشبكة سي إن إن: “إن الشخص الذي يتمسك بصرامة بأفكار ومبادئ معينة دون مرونة لا يستطيع أن يقود المجتمعات بفعالية أو ينجو من الصراعات المعقدة”.
حتى الآن على الأقل، يبدو الشرع ذكياً بما يكفي لفهم أنه لا هو ولا فصيله السياسي قادران على حكم سوريا بمفردهما، نعم لقد لعبت هيئة تحرير الشام دوراً رئيسياً في التحرير، لكنها لم تكن اللاعب الوحيد، فقد حرر الثوار المسلحون من درعا وريف حمص والغوطة الشرقية والميليشيات الدرزية في السويداء أنفسهم.
في أحدث بياناته، أكد التحالف الذي تقوده هيئة تحرير الشام لجميع الطوائف الدينية العرقية أن حقوقهم سوف تُحترم، وأصدر توجيهات بعدم التدخل في اختيارات لباس النساء- يُذكر أنه في إدلب، توقفت هيئة تحرير الشام عن نشر شرطة دينية منذ سنوات- كما أعلن الشرع أن جميع الجماعات المسلحة سوف تحل قريبا لصالح جيش وطني محترف.
تم تعيين محمد البشير رئيسا للوزراء في حكومة انتقالية حتى مارس/آذار 2025، وكان البشير في السابق رئيسا لحكومة الإنقاذ في إدلب، التي كانت متحالفة مع هيئة تحرير الشام، ولكنها مدنية وتكنوقراطية ونجحت بصورة كبيرة في توفير الخدمات.
حتى الآن كل شيء على ما يرام، ولكن هناك حاجة إلى قدر أعظم من الشمولية، وخاصة في عملية وضع دستور جديد، والشمول هنا لا يعني المشاركة الرمزية أو الحصص فحسب، بل يعني أيضا تنوع المشاركة العملية التي من شأنها أن تضمن الوحدة والاستقرار من خلال إعطاء الدوائر الانتخابية الرئيسية الشعور بأنها تمتلك حصة في النظام الجديد. ومن بين هذه الدوائر الانتخابية العلويون ــ الذين نشأ منهم الأسد ومعظم النظام القديم ــ والعلمانيون، وكلاهما يشعر حاليا بالصدمة، وإن كان متفائلا بحذر.
إن ائتلاف المعارضة ــ الذي كان نشطا لأكثر من عقد من الزمان ويشمل مجموعة من الفصائل، من جماعة الإخوان المسلمين إلى القوميين إلى الليبراليين ــ يضم كذلك أفرادا بارزين ينبغي إدخالهم في الحكومة الجديدة، ولكنه معوق بسبب افتقاره إلى الخبرة في حكم بلد بأكملها وبحجم سوريا.
ولكن التحديات الأكبر في الوقت الحاضر ليست محلية. فقد تحررت سوريا من روسيا وإيران، ولكن احتلالات أخرى لا تزال قائمة، بل وتتوسع. فشمال شرق سوريا يعاني من تعقيداته الخاصة وحروب الآخرين، خاصة مع وجود حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة، وهي تحالف يهيمن عليه حزب العمال الكردستاني (وليس “الأكراد”، كما يصر المعلقون على تسميته؛ فالأكراد السوريون متنوعون سياسيا مثل أي شخص آخر).
سوف تضطر الحكومة الجديدة إلى التفاوض على تقليص هذه القوى المعارضة، مع العلم أن قوات سوريا الديمقراطية تسعى حاليًا إلى تجنب الغزو التركي لكوباني من خلال إعلان المدينة منطقة منزوعة السلاح. ومن المأمول أن ينسحب حزب العمال الكردستاني إلى قاعدته في جبال قنديل في العراق، وأن تتمكن الأحزاب الكردية التي حظرها من العمل مرة أخرى، وأن يزدهر الأكراد في سوريا الجديدة، وقد أكد لهم الشرع بالفعل أن هذا سيكون هو الحال.
إن التحدي الأكثر خطورة الآن أمام الشرع هو عداوة الغرب، فالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لم يرفعا العقوبات المفروضة على سوريا، على الرغم من رحيل النظام، الأمر الذي يعقد ويعرقل مسألة إعادة الإعمار. والأسوأ من ذلك أن إسرائيل، التي سلحتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا، غزت المزيد من الأراضي السورية (بعد سرقتها لمرتفعات الجولان) وتقصف أهدافاً استخباراتية وعسكرية، على الأرجح لتدمير الأدلة على تعاونها مع الأسد.
إن هذا الهجوم غير المبرر، الذي يهدف إلى جعل البلاد بلا دفاع، هو طريقة مخزية وغبية للترحيب بسوريا المستقلة حديثاً، وأتوقع أن تتمكن سوريا في نهاية المطاف من الدفاع عن نفسها، فقد هزمت بالفعل مجموعة من الإمبرياليين الإقليميين والدوليين.
لا شك أن المستقبل سوف يتأثر بالقوى الأجنبية المعادية، ولكن الشعب السوري سوف يلعب الدور القيادي في هذه المرحلة، وذلك لأن “حكم الأسد للأبد” انتهى في الثامن من ديسمبر/كانون الأول، وسقطت تماثيل الطغاة، واستؤنفت عجلة التاريخ.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا