في خطوة جديدة تعكس حالة التخبط التي يعيشها النظام المصري، فقد أعلنت وزارة الخارجية قبل أيام عن تقدّمها بخطاب لمجلس الأمن، لبحث “تطورات” سد النهضة لحثّ إثيوبيا على العودة إلى مسار التفاوض بعد تعثرها منذ عدة أشهر. 

ويعبر هذا الإجراء عن حالة إفلاس بلغتها الجهود السياسية والدبلوماسية المصرية، المباشرة وعن طريق وسطاء، لدفع عجلة المفاوضات مرة أخرى، والتخفف من ضغط عامل الوقت الذي تستغله إثيوبيا جيداً لصالحها، لتصل إلى النقطة التي تسمح لها ببدء الملء الأول للسد منفردة وبدون تشارك أو اتفاق مع مصر والسودان.

وتعتزم إثيوبيا بدء ملء السد في يوليو/تموز المقبل، ضاربة بعرض الحائط ما يُسمّي بـ”اتفاق المبادئ” الذي وقعه عبدالفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي ميريام ديسالين والرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، في مارس/آذار 2015، والذي كان بمثابة تنازل رسمي من السيسي عن حقوق مصر التاريخية في نهر النيل .

 

حكاية الاتفاق الكارثي 

ويري مراقبون أنّ اتفاق المبادئ الذي وقّعه السيسي، على الرغم من التحذيرات التي تلقّاها بشأن تلك الخطوة، كان هو نقطة التحوّل الرئيسية في مسار أزمة السد، بعد منْحِ أديس أبابا الحق في استكمال بنائه، ونزع أهم ورقة ضغط كانت في يد مصر، مما أغرى الإثيوبيين بالمسارعة لاستكمال بناء السد وأخيراً ملأ البحيرة خلفه.

وقالت مصادر وثيقة الصلة بملف السد، إن “خطوة التوقيع على الاتفاق كانت ضمن حزمة تعهّدات مصرية لإثيوبيا سابقة للتوقيع، بعد عودة مصر إلى الاتحاد الأفريقي بعدما ظلت عضوية القاهرة معلقة في أعقاب 30 يونيو/حزيران 2013 بسبب رفض الاتحاد للإجراءات التي تمّت في أعقاب الثالث من يوليو والإطاحة بمرسي”. وأوضحت المصادر أن “التوقيع على الاتفاق الذي كان لصالح إثيوبيا التي تستضيف مقر الاتحاد الأفريقي وتملك نفوذاً كبيراً به، كان مقابل إلغاء تجميد عضوية مصر”.  

وينص البند العاشر من الاتفاق والذي جاء تحت عنوان “مبدأ التسوية السلمية للمنازعات” على: “تقوم الدول الثلاث بتسوية المنازعات الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقاً لمبدأ حسن النوايا. إذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق، الوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة”. فيما ينص البند السادس والذي جاء تحت عنوان “مبدأ بناء الثقة على أنه “سيتم إعطاء دول المصبّ (مصر والسودان) الأولوية في شراء الطاقة المولدة من سد النهضة”.

وهناك اتفاق فني بين السودان وإثيوبيا على ضرورة إبقاء منسوب المياه في بحيرة سد النهضة أعلى من 595 متراً فوق سطح البحر، لتستمر قدرته على إنتاج الكهرباء، وهو أمر تجادل مصر بأنه غير عادل إذا انخفض مقياس المياه في بحيرة ناصر عن 165 أو 170 متراً. وهنا مناط خلاف آخر بين مصر من جهة والسودان وإثيوبيا من جهة ثانية، لأنهما لا يرغبان في الربط بين مؤشرات القياس في سد النهضة والسد العالي، بينما كانت تؤيد الخزانة الأميركية الطلب المصري في هذا الصدد.

واشنطن تدخل على الخط

وفي نوفمبر/تشرين الماضي رعت واشنطن محاولات لتقريب وجهات النظر بين القاهرة وأديس أبابا والخرطوم، تكللت في نهاية فبراير/شباط الماضي، بتوقيع مصر بالأحرف الأولى على اتفاق ملء وتشغيل السد.

هذا الاتفاق الذي رعاه البنك الدولي أيضا، اعتبرته القاهرة “عادلا”، وسط رفض إثيوبي، وتحفظ سوداني، وإعلان مصري في منتصف مارس/آذار الماضي، عن توقف المباحثات مع إثيوبيا.

وتحركت كل من القاهرة وأديس أبابا في اتصالات ومقابلات مع سفراء عدة لطرح وجهة نظر كل منهم للسد، وسط دعوات سودانية بالعودة للمفاوضات دون رد من الطرفين المصري والإثيوبي.

وتتخوف القاهرة من تأثير سلبي محتمل للسد على تدفق حصتها السنوية من مياه نهر النيل البالغة 55.5 مليار متر مكعب، في حين يحصل السودان على 18.5 مليار.

من جهتها، أكدت مديرة المجلس الوطني لتنسيق المشاركة الشعبية لسد النهضة “رومان جبري سيلاسي”، أن موقف الشعب الإثيوبي يقوم على الاستفادة المشتركة من نهر النيل مع جميع الشعوب.

وأضافت: “دور واشنطن والبنك الدولي خلال المفاوضات الأخيرة كان منحازا لمصر، ولم ينصف الشعب الإثيوبي، ما أعطانا دفعة قوية لتوحيد الموقف الشعبي والسياسي على مستوى المعارضة والموالين، وتبنينا شعار: نحمي صحتنا ونستكمل سدنا ولا شيء يوقفنا”.

إثيوبيا تتجاهل السيسي 

من جانبها أعلنت إثيوبيا أنها ستنفذ خطتها لبدء عملية ملء سد النهضة، متجاهلة تماما أي وعود سابقة للسيسي، ومن المقرر أن يبدأ الملء في شهر يوليو/تموز المقبل، وفق ما أعلنت اللجنة الفنية لسد النهضة في اجتماع ترأسّهُ رئيس الوزراء أبي أحمد وشارك فيه كبار المسؤولين الحكوميين، حيث قدم وزير الطاقة والمياه والري تقارير حول سير بناء السد، كما أجرت اللجنة الفنية تقييماً للتقرير.

وبحسب التقرير وفق الوكالة الأثيوبية الرسمية، بلغت أعمال الهندسة المدنية 87٪ كما أنه تم إنجاز عملية البناء بشقَيهِ المدني والالكتروني 73%. 

وأكملت السلطات الإثيوبية إنشاءات سد النهضة الإثيوبي بشكل يسمح ببدء تعبئة أولية لخزان السد بمقدار 4 مليارات متر مكعب، مع حلول موسم الأمطار في يوليو/تموز المقبل، وذلك رغم استمرار الخلافات مع كل من مصر والسودان حول آلية ملء خزان السد.

ولم تؤثر أزمة تفشي فيروس “كورونا” المستجد “كوفيد-19” على أعمال السد التي مضت بوتيرة متسارعة، كما أتمت السلطات عملية إزالة الأشجار الممتدة على مساحة ألف هكتار، لتكون جاهزة كمرحلة أُولى من تعبئة الخزان.

كما تسارعت الحملة الشعبية لجمع التبرعات لمشروع السد، دون أن تتأثر بفيروس “كورونا”، حيث قدرت التقارير حجم الأموال التي جرى جمعها بما يزيد على  16 مليون دولار خلال الأشهر الماضية.

وتزايدت وتيرة عملية جمع الأموال بعدما روجت الحكومة الإثيوبية الشعور بالظلم وعدم الإنصاف في مفاوضات واشنطن الأخيرة.

وقال سيليشي بقل وزير المياه والري والطاقة في إثيوبيا إن مرحلة البناء تُمكّن من بدء تعبئة المرحلة الأولى في يوليو، مشيراً إلى أن عملية التعبئة سيتم تنفيذها، وأوضح أن بلاده أعدت وثيقة رد مناسب بشأن شكوى مصر إلى مجلس الأمن الدولي.

وتتحدث إثيوبيا بشكل دائم عن سوء استغلال مصر لمواردها وحصتها من مياه النيل وانخفاض قدرتها على الترشيد، مشددة على أنها لن تتعرض لخطر داهم كما تقول، وتزعم أن مصر تحمّلها كلفة فشلها في ذلك الملف، على الرغم من حصولها سنوياً على أكثر من 80 مليار متر مكعب، أي بأكثر من الحصة المنصوص عليها في اتفاقية 1959 مع السودان بواقع 30 مليار متر مكعب، الأمر الذي لا تعترف به مصر، وتؤكد أن كفاءة استغلال المياه تصل حالياً إلى أكثر من 85 في المائة.

ومع بداية أبريل/نيسان 2021، سيبدأ التخزين ومنع خروج أي ماء من السد لحين الوصول إلى منسوب يبدأ عنده توليد الكهرباء من أول التوربينات بالمستوى المنخفض، يلي ذلك ملء بحيرة التخزين بالاستحواذ على فيضان عام 2021 و2022 و2023 بالكامل، وتخزين قرابة 30 مليار متر مكعب من المياه سنويا، مع صرف قرابة 18 مليار متر مكعب يتوقع أن يستهلكها السودان على مدار أيام السنة، لتصبح النتيجة العملية هي عدم تبقي مياه تتجه إلى بحيرة ناصر أمام السد العالي في جنوب مصر، مما ينذر بدخول مصر مرحلة الجفاف المائي.

وهكذا يعيش المصريون شبح العطش والجفاف الذي سيصيب أراضيهم ومحاصيلهم الزراعية كنتيجة طبيعية لملء السد، في الوقت الذي يكرر فيه السيسي الثناء على شخصية آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي معتبرا إياه “رجل سلام” ، ما يؤكد أنه لا يمانع من التنازل عن أي شيء في مقابل البقاء علي كرسي الرئاسة.

 

اقرأ أيضًا: “لن نتحمل الألم لتزدهر مصر” .. إثيوبيا تكشف عن وجهها القبيح في أزمة سد النهضة