العدسة – منصور عطية

تداعيات محتملة وانعكاسات أقرب إلى الواقع، ربما يحملها المستقبل القريب في طياته للمنطقة، بعد إقالة “ريكس تيلرسون” وتعيين “مايك بومبيو” وزيرا للخارجية الأمريكية.

ولعل هذا الاستنتاج يستند مبدئيا إلى تصريحات من قبل الرئيس دونالد ترامب بعد الإقالة، كما يبدو منسجما مع مواقف سابقة للوزير الجديد، خاصة في التعامل المتوقع منهما تجاه القضايا الساخنة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الاتفاق النووي مع إيران، الأزمة الخليجية، والقضية الفلسطينية.

إجمالا قد يمكن الجزم بالقول إن إدارة ترامب سوف تعتمد نهجا أكثر تشددا تجاه قضايا المنطقة، على نحو يتفق مع مواقف ترامب المعلنة وتعهداته الانتخابية، فضلا عن التوقعات بشأن ما يمكن أن يسير عليه بومبيو.

ولعل ترامب عبر عن ذلك صراحة بشكل لا يقبل التأويل، بعيد إعلان قراره عبر تويتر بقوله: “إنه وبومبيو على نفس الموجة دائما”.

تمزيق الاتفاق النووي

ولأنه الملف الأوفر حظا في تعليقات ترامب، والأكثر زخما، فإن الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الدول الكبرى (5+1) يبدو في صدارة القضايا الملحة التي يرجح أن تشهد تغيرا في تعامل الإدارة الأمريكية بعد إقالة تيلرسون وتعيين بومبيو.

الشاهد الأبرز على ذلك، هي تلك التغريدات التي أطلقها ترامب في الساعات الأولى من صباح الأربعاء، حيث قال: إن “الاتفاق النووي مع إيران هو أحد أكثر الاتفاقيات سوءا”، وإن “إيران ترعى الإرهاب وتقف وراء كل مشكلات الشرق الأوسط”.

الاتفاق النووي كان الأبرز في سلسلة الأسباب التي دفعت ترامب إلى إقالة تيلرسون، حيث صرح الرئيس بذلك ولم يخفِه، وقال ترامب: إن “الاتفاق النووي المبرم مع إيران سيئ جدا، وكان تيلرسون لا يتفق معي حول ذلك”.

وتابع: “بالنسبة إلى الاتفاق (النووي) الإيراني أعتقد أنه رهيب، بينما اعتبره (تيلرسون) مقبولا، وأردت إما الغاءه أو القيام بأمر ما، بينما كان موقفه مختلفا بعض الشيء، ولذلك لم نتفق في مواقفنا”.

على النقيض، فإن “بومبيو” تعهد سابقا بإلغاء الاتفاق، واقترح في اجتماع مائدة مستديرة عقد في 2014 مع الصحفيين، أن تقصف الولايات المتحدة المنشآت النووية في إيران، وقال في أكتوبر الماضي إن إيران “تقود مساعي حثيثة لتكون القوة المهيمنة في المنطقة”.

وعليه، فإن الانعكاس المباشر على إقالة تيلرسون وتعيين بومبيو فيما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني يقضي بتمزيق الاتفاق من طرف الولايات المتحدة، الأمر الذي ستتحمل تكاليفه أطراف إقليمية ودولية أخرى حتى خارج أطراف الاتفاق.

بداية، فمن المتوقع أن تعود إيران إلى نشاطها النووي وألا توافق إيران على إعادة التفاوض، أو إعادة النظر ببعض بنود الاتفاق، لكن الرد الطبيعي هو العودة إلى تخصيب اليورانيوم، والتجهيز العلمي لصناعة القنبلة النووية.

وعندها، سيجد العديد من الدول أن الحق في جانب طهران، وستشعر إيران بأنها حصلت على شرعية في استعادة نشاطها النووي؛ لأن الطرف المقابل نقض العهد، وقد تذهب روسيا والصين في طريق معاكس وتقدمان دعما سياسيا ودبلوماسيا لإيران.

ويرجح أيضا أن تتأثر مصداقية الولايات المتحدة أمام حلفائها الأوروبيين، وأمام الدول العظمى دائمة العضوية في مجلس الأمن (رعاة الاتفاق)، وقد يشمل رد الفعل السلبي تجاه تمزيق الاتفاق المستويين الرسمي والشعبي، وخاصة في أوروبا التي تنفست شعوبها الصعداء بعد توقيع الاتفاق، حيث إنها ليست معنية بتصعيد التوتر في المنطقة العربية الإسلامية، لأنه سرعان ما ينعكس عليها سلبا من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وستكون واشنطن حينها مجبرة على تحمل تكاليف تصاعد التوتر مع إيران، حيث ستتخذ احتياطات غير مسبوقة لمواجهة أية مخاطر أمنية يمكن أن تنعكس على الداخل الأمريكي ومصالح الولايات المتحدة خارج أراضيها، وهو ما يستلزم تكاليف باهظة سيتحملها دافع الضرائب الأمريكي.

كما أنه من الوارد أن يشعل تمزيق الاتفاق سباقا للتسلح في المنطقة العربية الإسلامية، وهذا يعني المزيد من التوتر بين إيران وبعض الدول الخليجية وفي مقدمتها السعودية، ما ينذر بمناوشات قد تتحول إلى مواجهة عسكرية وشيكة تحاول القضاء على الطموح النووي الإيراني بالقوة.

في الجهة المقابلة، إذا ألغي الاتفاق ستخسر إيران اقتصاديا، وسيكون الضغط الاقتصادي الأمريكي عليها مؤذيا، فضلا عن أنها ستتكلف كثيرا في مجال التسليح لأنها ستدخل في سباق تسلح مع بعض دول الخليج العربية.

إشعال الأزمة الخليجية

وكما هي الصورة قاتمة لمستقبل الاتفاق النووي مع إيران بعد إقالة تيلرسون، فإنها على نفس الدرجة وربما أكثر قتامة، فيما يخص الأزمة الخليجية.

كثيرون رأوا أن الإقالة كانت بمثابة الانتصار لمعسكر دول الحصار وهزيمة لقطر، بالنظر إلى مواقف تيلرسون الدافعة نحو تهدئة الأزمة منذ اندلاعها، مقابل سعي ترامب المتواصل لمزيد من الإشعال.

وفي هذا السياق، يبرز تقريران في غاية الأهمية؛ أولهما لصحيفة “النيويورك تايمز” التي قالت إن ترامب “في خصومة مع وزير خارجيته ريكس تيلرسون، الذي يرتبط بعلاقات جيدة مع جميع قادة الخليج الضالعين في الأزمة”، مشيرة إلى أن تلك العلاقات تعود إلى فترة عمل تيلرسون رئيسا تنفيذيا لشركة (إكسون موبيل).

وأضافت: “تيلرسون يشعر بالريبة تجاه المطالب التي تضغط السعودية والإمارات من أجل تنفيذها”.

كما حصلت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” مؤخرا على رسائل بريد إلكتروني مسربة تكشف جهودا إماراتية للإطاحة بتيلرسون من منصبه بسبب رفضه لحصار قطر، إحدى الرسائل تظهر، بحسب التقرير، أن واحدا من أبرز جامعي التبرعات لحملة ترامب الرئاسية، وهو رجل الأعمال اليهودي “إليوت برويدي”، التقى الرئيس الأمريكي في أكتوبر الماضي وحثّه على إقالة تيلرسون، وقد جرى هذا اللقاء عقب عودة برويدي من زيارة للإمارات العربية المتحدة، وفي رسالة أخرى يصف “برويدي”، وزير الخارجية الأمريكي “بالضعيف”، ويقول إنه يستحق “الصفع”.

وتكشف رسائل البريد الإلكتروني أن برويدي كان قد أعد مذكرة بشأن اجتماعه مع الرئيس ترامب، وأنه حثه على مواصلة الدعم الأمريكي للإمارات والسعودية ضد قطر، في النزاع بينهما منذ الأزمة.

وبينما قال تيلرسون في أعقاب اندلاع الأزمة: “إن الحصار الذي تفرضه دول خليجية على قطر غير مقبول، نعتقد أنه من المهم بقاء مجلس التعاون الخليجي موحدا”، كان تصريح ترامب: “من الجيد رؤية أن زيارتي للسعودية مع الملك سلمان بن عبدالعزيز و50 دولة تؤتي ثمارها، قالوا إنهم سيتخذون نهجا صارما ضد تمويل الإرهاب، وكل المؤشرات كانت تشير إلى قطر، ربما سيكون هذا بداية النهاية لرعب الإرهاب”.

ولعل محاولة استنتاج تعامل ترامب وبومبيو مع ملف الأزمة الخليجية تبدو في المتناول، حيث يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة ميلا تجاه مواقف دول الحصار ضد قطر، بشكل يمتد إلى الحديث عن إغلاق قاعدة العديد الأمريكية بالدوحة، والتي ينظر إليها كحائط صد فولاذي أمام شن عمل عسكري ضد قطر.

الحديث عن نجاح الضغوط الإماراتية في الإطاحة بتيلرسون، تعيد إلى الأذهان ما كشفته وثائق مسربة من بريد السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، من أن حكومة أبو ظبي تمارس ضغوطا على سياسيين أمريكيين لإغلاق قاعدة العديد.

فهل تنجح أبو ظبي في إقناع ترامب وبومبيو بإغلاق القاعدة؟ وما الذي يمكن أن يسفر عن ذلك من عمل عسكري تشنه دول الحصار ضد قطر؟

بالعودة إلى تصريح سابق للعتيبة أكد فيه أن “قاعدة العديد العسكرية الأمريكية في الدوحة، حدت بصورة كبيرة من الإجراءات التي كانت ترغب دول الخليج أن تتخذها ضد قطر”، وبالنظر إلى كل التقارير السابقة، يبدو في حكم المؤكد أن إقالة تيلرسون ستكون لها انعكاساتها، على طريقة تعامل إدارة ترامب مع الأزمة الخليجية.

التطبيع والقدس وصفقة القرن

اتساقا مع النتيجة السابقة، فإن الأمر ينسحب على مزيد من التعزيز لقوة التحالف الأمريكي مع دول حصار قطر، وفي القلب من هذا الحديث عن مسألة تطبيع العلاقات بين السعودية والاحتلال الإسرائيلي، التي تعد أمرا حيويا يهتم به ترامب كثيرا ويشير على فترات متفاوتة إلى كم التغير الحاصل في علاقة إسرائيل بالدول العربية خاصة الخليجية.

وعلى مدار الأشهر الماضية، بدا من خلال عدة وقائع رصدها وحللها (العدسة)، أن السعودية تهرول حثيثة وبخطوات متسارعة نحو التطبيع الكامل مع الاحتلال الإسرائيلي.

وبعيدًا عن الشواهد غير الرسمية وتلك التي يكون أبطالها أشخاصًا ليسوا في منظومة الحكم أو يتمتعون بحيثية كبيرة، أكد مسؤول إسرائيلي، رفض الكشف عن اسمه، لوكالة الصحافة الفرنسية أن المسؤول السعودي الذي زار إسرائيل سرًّا في شهر سبتمبر الماضي، هو ولي العهد محمد بن سلمان.

وفي نوفمبر، نشرت مجلة “فوين بوليسي” الأمريكية، تقريرا وصفت فيه ولي العهد السعودي بأنه “رجل إسرائيل في السعودية”، وقالت إن “بن سلمان” عنصر “يمكن الاعتماد عليه في مشروع أمريكي إسرائيلي طويل الأمد لخلق شرق أوسط جديد”.

يتلامس الحديث هنا مع أزمة قراري ترامب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة واشنطن إلى المدينة المحتلة، وعلاقة القرارين بالقضية الفلسطينية ككل وصفقة القرن.

ففي الوقت الذي بدا فيه ترامب متحمسا ومدافعا عن قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس، كان تيلرسون حذرا، وقال في تصريحات له، إن نقل السفارة قد يستغرق أكثر من عامين، مضيفا أن أي قرار نهائي بشأن وضع القدس، سيعتمد على المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

تلك المعادلة التشابكية التي ترتبط فيها عوامل عدة ببعضها، هي علاقات معقدة تقود في نهاية المطاف إلى ما أُثير بشأن صفقة القرن ومخططات تصفية القضية الفلسطينية، وتجليات الأزمة وتطوراتها خلال الأسابيع القليلة الماضية.

فقرار نقل السفارة المتخذ فبراير الماضي، جاء بعد يوم واحد من تصريحات للسفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة “نيكي هايلي”، قالت فيها: إن “اقتراح خطة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين اكتمل تقريبا”.

التصريح كان رد على أسئلة طرحها “ديفيد إكسلرود”، المستشار السابق لدى إدارة باراك اوباما، بشأن قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقالت “هايلي” عن الخطة: “أعتقد أننا في طور إنجازه”.

وفي أوائل فبراير الجاري أبلغ “جيسون جرينبلات”، موفد ترامب للشرق الأوسط، قناصل دول أوروبية معتمدين في القدس، بأن صفقة القرن “في مراحلها الأخيرة”، ونقلت تقارير إعلامية عن أحد المشاركين في اللقاء -دون ذكر اسمه- أن “جرينبلات” في معرض حديثه عن صفقة القرن أكد للمسؤولين الأوروبيين أن “الطبخة على النار، ولم يبق سوى إضافة القليل من الملح والبهارات”، على حد تعبيره.