يوسف الدموكي

كاتب و شاعر مصري

الموت واقفاً ..

جسدٌ بارد، وعينان مغلقَتان في طمأنينة، ولحيةٌ بيضاءُ ناصعٌ لونُها، يقتبسُ الوجهُ من وقارِها نورًا، وتقتبس هي من نورِه جلالةً ووقارًا، وشعرٌ كالتاجِ يلمعُ فوق رأس صاحبِه الذي شابَ مظهرُهُ –مما رأى- قبل أن يشبّ، وشبّ جوهرُه –مما أرى- حتى بعد أن غزاه الشّيب.

لا شيْءَ يُسمَع ولا أنفاسَ تتردد بانتظامٍ أو بصعوبة، فقط صوتُ مياهٍ مصبوبةٍ فوقَ الجسدِ الذي أعياه الدهرُ وأثقلتْه المحَنُ فصَقَلته، فهانت المحَنُ ولم يهن صاحب الجسد، وخرّ الابتلاءُ صعِقًا من صلابة المُبتلَى، ومضى الدهرُ ولمْ تَمضِ الروحُ معه؛ وإنما وحدَها التي بقِيت.

كوبُ مياهٍ يمزجه المغسّلُ بِتَمْتَمَاتِه الذاكرةِ اللهَ في لحظات كتلك، ثم يهدهدُه في تأنٍّ فوق التاريخِ الراقدِ أمامَه. كوبٌ آخرٌ ممزوجٌ بما تجودُ ذاكرةُ المغسل عليه في وقتٍ كهذا وفي حضرةِ ملَكٍ تثبّتُه ملائكةُ السماءِ فما ضَرَّهُ ملوك الأرض.
يغسلُ وجهَ الميتِ فيرى فيهِ تفاصيلَ الثورةِ والانتفاضةِ والدعوةِ والقضية والوطن، ينسابُ الماءُ إلى عنُقِه فيرى فيها الهتافَ والكلمة والقصيدة، ثم يجري إلى صدرِه فيرى فيها خريطةَ فلسطين وبوائك الأقصى وأشجار الزيتون والبرتقال، يمحلقُ إلى ضلوعِه البارزةٍ من ضعفٍ ألمّ بها؛ فتكادُ الهمومُ التي بداخلِها أن تعكسَ صورتَها إلى الناظرين فيرَوْا تاريخَ الوطنِ وجغرافيته مجتمعتين في صدرٍ واحد. يتحسسُ قلبَه وفي الوقت ذاتِه يعيد التدقيقَ في تقرير الوفاة..
قلبُ المُتوفَّى ما زال ينبضُ، وعيناهُ ما زالتا تنظرانِ في أُنس، وأنفاسُه تبعثُ في الأحياءِ الروحَ، لكنْ سُرعانَ ما يستيقظ من غفلتِه على صوتٍ أجَشّ: “كم تبقَى من الوقتِ لتنتهيَ من تغسيله؟” – خمسُ دقائق “حسنًا، غسله ونادِني، نحن مَن سيدفنُه”.

تعالَت الأصواتُ بصدرِ المغسّل حتى خنَقَتْه؛ فلم تخرُج.. كان يقول: “أُغَسّل منذ عشرين عامًا كلّ يومٍ عشرين جُثةً بعد وفاتِهم، إلا اليوم فقد استطعتُ قبل وفاتي أن أجدَ ميتًا يغسلني أنا! ادفنوه أنتم، اليوم كذلك أرى لأوّل مرةٍ ميتا يدفنُ الأحياء ويُحيي الأموات في دواخِلِنا!”

يُقالُ أنَّ صوتَ المُغسِّل حين اختنَقَ لم يكن خافتًا، وإنما اختنَقَ لضيقِ المسامعِ به؛ كنفخةٍ في الصورِ قبضَتْ أرواحَ مَن في الأرضِ جميعًا.. وأحْيَتْ عاكفًا وحدَه!

خبرُ الموتِ ينزل على النفوس زلزالًا، ولكنْ من قبلِه ملايينُ التفاعلاتِ ومئاتُ الأسبابِ التي أدت إلى حدوث الزلزلَة، خروج الأثقالِ مثلًا، وتحدث الأخبار، وأسئلة الإنسان، وصدور الناسِ أشتاتًا لُيرَوْا أعمالهم! تمامًا كأنْ تتخيلْ آخر اللحظاتِ قبل صعود الروح وسقوط البُنيان، تلك اللحظات التي يتحول فيها الجسمُ إلى جسد، ولا فرق بين الكلمتين لغةً واصطلاحًا.. إلا الحياة!

كيف تَحَوّلَ؟ ولماذا؟.. ربّما كان ينادي على أحدٍ بصوت لم يُسمع، وربما كان صوتُه مسموعٌ والحديد يَمنع، وربما كان الحديد لا يمنع، والصوت يصل ويُسمَع، ولا أحد بالجوار.

عروبةُ وحلا.. أيهما قُتلتْ أولًا؟

هل كان السكّينُ باردًا؟ كيف بدأَ القتلةُ وأين اختَفوْا؟ كيف كانت نظرةُ حلا الأخيرة؟ أم أنّ النظرة الأخيرة كانت لعروبة؟ وحلا سبَقتها.. الطفولةُ والبراءةُ في عينيهما تلاحقان القاتل؟ هل ينام؟ كيف اقتنع بأنهما مجرمتان وعقاب جرائمهما الذبح!

حَلا بحد ذاتِها له عَيْنٌ آمرةٌ بالمعروفِ وناهيةٌ عن المنكر، داعيةٌ إلى الحياةِ ومنقذةٌ من الموْت، مسالمة ومُسلِمة ومسلَمَة.. لو أن قاتلًا رآها على قارعةِ طريقٍ قَبْل أن يقتُلَ لجلبَ إلى الضحيةِ وردةُ وقبّلها قبلةَ اعتذارٍ ثم رحل في صمتٍ، لو أنّ سارقًا رأى سعةَ عينيْها قبل أن يسرقَ لما ضاقت به الحياة، لو أنَّ ظالِمًا سمعَ صوْتَها تقول: اعدِل سيّدي، لفتَح قصرَه ديوانًا للمظالم.. قاتلُ حَلا لم يرَها، ولو رآها لما قَتَل!

يقولونَ أن التاريخَ يكتبه المنتصرون دائمًا، لكنهم لم يعرّفوا المنتصرينَ في مقدمةِ فلسفاتِهم. نسوْا أو تناسَوْا أن المنتصرينَ هم أصحابُ القضايا الذين يموتون في سبيلها وُقوفا. ثم نسَوْا أو تناسَوْا أن يقولوا ما معنى أن تموت وأنت واقفٌ؟

الوقوفُ يا صديقي لا يعني حالةَ الجسم في حركته أو سكونِه، ولا يعني ارتفاع القامة وانتصاب الهامة، ولا يعني أن مَن سُحِل أو أُعدِم قد اغتالوا وقوفَه، ربما اغتالوا بداخلِه كل شيْءٍ، الخوف والجزع والرهبة والضعف.. إلا الوقوف!

الوقوف يعني حالةَ القلب وما وقر فيه من إيمان وحالة العقل وما ثبت فيه من مقاومة وحالةُ القلَم وما بُثّ فيه وبَثَّ فينا مِن انتفاضة.
الوقوف يعني أن نموتَ وكلماتُنا حية..
وحياة كلماتنا بحد ذاتِها فنّ، والفنّ يا سيدي نصفُ الوقوف، والقضية نصفُه الآخر.. ومتى اجتمعا في شخصٍ كتبا له الحياةَ بلا رحيل.

غسانُ كنفاني مات واقفًا.. وناجي العلي مات واقفًا.. وباسل الأعرج مات واقفا.. غسانُ علمنا الكلمة، وناجي رسمها لنا، وباسلُ عرّفنا الطريق إليها، وعروبةُ أخبرتنا كيف تهونُ كل غربةٍ عدا غربتك عن قضيتك، وحلا أثبتت لنا علاقة البراءة بالضجيج المصاحب للرحيل، وعاكفُ علّمنا.. كيف يبيضّ الشعرُ، وتبيضّ العين، ولا يُمحى سوادِ الثأر من القلب الأبيض!

هنالكَ غير بعيدٍ عن لحدِه المبطّن بالمهابةِ، والمغشّى بالتاريخِ، والمزيّن بورودٍ بعدد الساعات التي قضاها في السجن، وبعدد الأسواط التي ألهبتْ ظهرَه، وبعدد الآلامِ التي قضّت مضاجعَه، بعدد كل كلمةٍ وصلت، وبعدد كل صرخةٍ لم تصل.. في زاوية أخرى من زوايا القاهرةِ يريدُها المخرجُ، تبجّحًا منه في ليلةٍ مُنع فيها أن يزفَّ أستاذَ القرنِ أهلُ الأرض، فزفّته ملائكة المساء.. يسمح للشواذ بإقامة حفلِهم الأول، كأنّ الأقدارَ يفسّر بعضُها بعضًا، ويرشُّ كلُ قدرٍ منهم الملحَ على جُرح القدر الذي سبقه.

أخبروهم أن عاكفَ كذلك كان شاذًّا!

كان شاذّا عن كل قطيعٍ يُطأطئُ الرأس ويحني النفس، كان شاذًّا بشبابِ قلبه وإن بلغ عمرُه التسعين، كان شاذًّا بما تركه من إرثٍ ممتلئٍ بكل أنواع المقاومة وحافلٍ بكل ضروبِ العزة، كان شاذًّا كشذوذ الماءِ عن كل سائلٍ سواه.

الآن بدأ عمرُ حلا، وأمها.. وبدأ عمرُ عاكف؛ إذ أنّ العمر يا سيّدي ليس بما عاشه الإنسان قبل موتِه، وإنما بما حياه بعد موتِه، ومن لم يترك من بعده أثرًا يُذكر به ويحيا بين الناس بروحه، فما عاش يومًا ولا عمّر.

أما بعدُ يا سيدي الحيّ مهدي عاكف.. لولا اعتكافٌك في رحابِ نفسِك ما اهتديت، ولولا هداك لَما اعتكفت.
ولا ميتة أكرم من أن تلقى الله مهديّا إلى الحق عاكفا عليه.

وأمّا عن عروبةُ وحَلا.. فأنا ممتنٌّ جدًّا لأنهما دفعتا عمرَيهما ثمَنًا لنعرفَ الفرق بين المعيشة والحياة.. والفرقُ بينهما كمَن يأكل الطعام ويشربُ الماءَ ويموت فيتحلل، وكمَنْ يرضَع الرجولةَ ويشربُ الانتفاضةَ فيتحللُ كل شيءٍ ويبقى هو؛ يموتُ الزمنُ ويحيا هو متمردًا عليه، ويموتُ المكانُ فيصلَ إلى ما وراء الحدود، ويموت الموتُ.. ويُكتبُ لسيرتِه الخلود، ولروحه البقاء..!

 

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.