العدسة – منصور عطية
“كامبريدج أناليتيكا”.. عنوان قصير لفضيحة عالمية كبرى هزت العالم على مدار الأيام الماضية، وتصدرت تفاصيلها وتداعياتها تغطيات وسائل الإعلام بمختلف أنواعها حول العالم، فيما أقضت مضاجع قادة وحكام ورجال أعمال.
ربما لا يتعلق الأمر فقط بالسطو على بيانات مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، لكن بما ترتب على هذا السطو من نتائج، امتدت آثارها إلى تهديد شرعية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وغموض مستقبل موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، وكشف لعبة قذرة جديدة قادتها الإمارات على خط عدائها لقطر.
“ترامب” على المحك
تحقيق القناة الرابعة البريطانية الذي بُث مؤخرا، كشف أن شركة “كامبرديج أناليتيكا” البريطانية، التي عمل ستيف بانون، كبير مستشاري “ترامب” السابق نائبا لرئيسها، تقف وراء أوسع خرق لحسابات 50 مليونًا من مستخدمي موقع “فيسبوك” بشكل غير قانوني.
كما أظهر أن الشركة استفادت من المعلومات التي حصلت عليها من تلك البيانات في ابتكار أساليب ملتوية من أجل الدفع لصالح حملة “ترامب” الانتخابية، والتأثير على آراء الناخبين، فكانت بمثابة الذراع الرقمية التي ساهمت في فوزه وإيصاله إلى سدة حكم الولايات المتحدة.
تلك الأساليب اعتمدت على بث آلاف الدعايات الكاذبة والأخبار الملفقة والشعارات التحريضية التي شكلت نواة خطاب “ترامب” وحملته الانتخابية، وكالعادة كلما تكشفت فضيحة تلاحق حملة “ترامب”، بادر قائمون على تلك الحملة ومقربون من الرئيس الأمريكي إلى التهوين من الدور الذي يصفونه بـ”المحدود” الذي قامت به الشركة، كما هو الحال بشأن التحقيقات الروسية.
الحملة قالت إنها قطعت علاقتها بالشركة منذ فترة، وأنها اعتمدت في بيانات الناخبين على اللجنة الانتخابية الجمهورية، لكن هذا لا يتسق مع تصريحات سابقة لصهر “ترامب” ومستشاره “جاريد كوشنر” أدلى بها عقب الانتخابات، وقال إن الاستهداف الرقمي كان أداة فاعلة في وصول خطاب “ترامب” إلى قطاع عريض من الناخبين، وهو ما أدى إلى الاستعانة بـ”كامبريدج أناليتيكا” لتعزيز هذا الزخم الرقمي.
التسجيلات المسربة لمدير الشركة “ألكسندر نيكس” تعزز من صحة تصريحات “كوشنر”، حيث تفاخر بالدور الموسع لشركته في الحملة الانتخابية لـ”ترامب”، زاعمًا أنها قامت بكل بحوث وتحليلات الحملة، وكذلك حملاتها التليفزيونية والرقمية.
وفي التسجيل السري الذي حصلت عليه محطة “تشانل فور نيوز” البريطانية، كشف “نيكس” عن استخدام شركته نظام بريد إلكتروني سريًّا للتدمير الذاتي، وقال عن هذه الأداة التي تمسح رسائل البريد الإلكتروني بعد ساعتين من قراءتها: “لا يوجد دليل، لا يوجد أثر، لا يوجد أي شيء”.
وتضمنت التسجيلات مع المراسل السري، تفاخُر “نيكس” أيضا بالإيقاع بسياسيين، والعمل بشكل سري في انتخابات في أرجاء العالم عبر شركات في الواجهة.
الفضيحة كان صداها عاليا في الداخل الأمريكي، حيث أعلن كبير الديمقراطيين في لجنة الاستخبارات بمجلس النواب “آدم شيث” أن مكتشف الفضيحة، وهو موظف سابق بالشركة يدعى “كريستوفر ويلي” قد وافق على الإدلاء بشهادته أمام اللجنة، بينما طالبت “سوزان كولينز” العضو الجمهوري في لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ بمثول “نيكس” أمامها للإجابة عل تساؤلات بشأن وجود علاقة بين شركته وروسيا.
ورغم نفي “نيكس” لتلك العلاقة سابقا، قالت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، إن الشركة أجرت معاملات مع شركة نفط روسية ضخمة كانت مهتمة بمعرفة كيفية استخدام البيانات الرقمية لاستهداف الناخبين الأمريكيين.
كل تلك التفاصيل والعلاقات المتشابكة دفعت المحقق الخاص “روبرت مولر” – الذي يتصدى للتحقيق في التدخلات الروسية بنتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة – إلى طلب جميع مراسلات موظفي الشركة الذين عملوا في حملة “ترامب”.
وإذا كانت الأمور هادئة حتى الآن، ولم توجع “ترامب” بشدة فيما يخص الدور الروسي بحملته الانتخابية، فهل يمكن أن يتلقى الضربة القاضية التي تهدد عرشه من فضيحة “كامبريدج أناليتيكا”؟.
محاكمة “فيسبوك”!
لم يكن الأمر أقل وطأة على شركة “فيسبوك”، طالب رئيس لجنة الثقافة في مجلس العموم البريطاني “داميان كولينج” مؤسس فيسبوك “مارك زوكربيرج” بالمثول أمام اللجنة في جلسة استماع حول الفضيحة، في حين تسعى هيئة بريطانية لاستصدار أمر قضائي للاطلاع على قاعدة بيانات الشركة لمعرفة كيف سطت على تلك البيانات، في وقت اقتربت خسائر موقع التواصل الأشهر في العالم من 10 مليارات دولار.
ورغم أنه لم يعتذر لمستخدمي موقعه، إلا أنه اعترف بأن شركته “ارتكبت أخطاءً فتحت المجال أمام وصول بيانات لمستخدمين إلى شركة “كامبريدج أناليتيكا” لتحليل البيانات، وقال في أول تعليق له على الأزمة إن الشركة “ارتكبت أخطاء، ويوجد أمور كثيرة ينبغي عملها، وعلينا أن نتحرك وننفذها”.
ولم يذكر “زوكربيرج” بالتفصيل الأخطاء التي وقعت، لكنه قال إن شبكة التواصل الاجتماعي تعتزم إجراء تحقيق يتعلق بتطبيقات على منصتها وتقييد وصول المطورين للبيانات وتوفير أداة للأعضاء تيسر لهم منع الوصول لبياناتهم على “فيسبوك”.
ربما لا تتوقف تداعيات القضية عند اتهامات باستخدام البيانات المذكورة لغرض التأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، بل تفتح النقاش من جديد حول مدى احترام “فيسبوك” لخصوصية مستخدميه، ومدى إمكانية وصول بياناتهم إلى جهات سياسية.
التقارير التي تحدثت عن الاستغلال الحكومي لبيانات مستخدمي “فيسبوك”، تعددت خاصة بعد ارتفاع شعبيته بدءًا من عام 2010، من بين ذلك ما صرح به “جوليان أسانج”، صاحب موقع “ويكيلكيس” حين وصف فيسبوك عام 2011 بـ”أكبر آلة تجسس مرّوعة اختُرعت على مدار التاريخ”.
وأشار إلى أن مستخدمي هذا الموقع يقدمون خدمات مجانية للاستخبارات الأمريكية التي تستخدم قواعد بياناتهم.
ورغم أن “فيسبوك” لا يخفي طلبات الحكومات للحصول على بيانات بعض المستخدمين، لكن استخدام الحكومات لا يتركز فقط في مطالب رسمية، بل باتت الحكومات تستخدم الموقع للدعاية لها وللتأثير على الرأي العام، بحسب تقارير إعلامية.
في وثيقة نشرتها وسائل إعلام عن القسم التقني في فيسبوك عام 2017، يتحدث هذا القسم عن تقنيات تستخدم من حكومات ومنظمات لأجل نشر معلومات مضللة لأهداف سياسية، منها الأخبار الكاذبة، وتعميم المحتوى المضلل، واستخدام حسابات وهمية.
عربيًّا، ارتبطت ثورات الربيع العربي ارتباطا وثيقا بمواقع التواصل الاجتماعي، خاصة “فيسبوك”، الذي ساهم في اتساع دوائر المحتجين وتسهيل تواصل قادة الحراك في الشارع مع وسائل الإعلام العالمية، إلى حد وصف فيه تقريرٌ لمعهد السلام في الولايات المتحدة عام 2012، أن هذه الشبكات كانت آلية سببية مهمة في الانتفاضات.
الأنظمة العربية لم تفوت الفرصة، وتمكنت من اللحاق بالتكنولوجيا الحديثة، فلجأت إلى عدة طرق للدعاية، منها خلق صفحات رسمية وغير رسمية على المواقع الاجتماعية تتغنى بالحكام والمسؤولين الأمنيين والعسكريين والسياسيين المقربين من دوائر القرار.
تطور الاستخدام لاحقا، فلجأت جهات داخل السلطة بأكثر من بلد عربي إلى تقنيات متعددة لخلق رأي عام في الشبكات الاجتماعية ضد الآراء التي تنتقد الأوضاع، ومن ذلك مسألة اللجان الإلكترونية أو ما يسمى “الذباب الإلكتروني”.
الأكثر من ذلك أن عدة تقارير أمنية متخصصة تحدثت عن قدرات السلطة على الوصول إلى معلومات المستخدمين ورسائلهم الشخصية دون الحاجة لإرسال طلب إلى الموقع، من خلال توظيف آليات للتجسس واستغلال ثغرات أمنية تظهر في المواقع الاجتماعية من حين لآخر.
لعبة الإمارات القذرة
ومن أبرز ما كشفه التحقيق السري للقناة الرابعة البريطانية، أن الشركة المتخصصة في تحليل البيانات “كامبرديج أناليتيكا” هي الفرع الأمريكي للشركة البريطانية “أس سي أل سوشيال ليميتد” التي استأجرتها الإمارات لنشر معلومات مكذوبة لتشويه سمعة قطر.
وكانت شبكة “أن بي سي” الأمريكية قالت في تقرير لها في وقت سابق، إن وثائق “كامبردج أناليتيكا” كشفت أن الإمارات دفعت مبلغ 333 ألف دولار مقابل شن حملة في مواقع التواصل الاجتماعي لتشويه سمعة قطر وربطها بالإرهاب عام 2017.
ويقضي العقد بين شركة “أس سي أل سوشيال ليميتد” والمجلس الوطني للإعلام بدولة الإمارات بأن توزع الشركة على مواقع فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها إعلانات مكذوبة ضد قطر، وقد نشرت الشركة إعلانات سلبية إبان اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر الماضي. (تفاصيل أكثر في تقرير سابق للعدسة)
اضف تعليقا