بقلم سامي شحاتة

في أحدث تصريحاته المثيرة للجدل، هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإلغاء وقف إطلاق النار في غزة إذا لم يتم الإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين بحلول السبت 15 فبراير 2025. هذا التصريح الذي يعكس نهجه البلطجي المعتاد في التعاطي مع الأزمات الدولية يطرح سؤالًا جوهريًا: من الذي سيدفع الثمن في حال تم تنفيذ هذا التهديد؟ هل سيكون الجيش الإسرائيلي؟ أم سيكون المدنيون الفلسطينيون الذين كانوا، ولا يزالون، الضحية الحقيقية لكل تصعيد عسكري؟

غزة دفعت الثمن مرارًا وتكرارًا. أكثر من 165 ألف ضحية بين قتيل وجريح ومفقود ومعتقل منذ بداية العدوان الإسرائيلي على القطاع، وهو رقم مهول يكشف حجم المأساة التي تعيشها هذه البقعة الصغيرة من العالم. عشرات الآلاف قتلوا، معظمهم من النساء والأطفال، وآلاف آخرون يرقدون في المستشفيات – إن تبقى هناك مستشفيات أصلًا بعد الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية الصحية. الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية يُعدّون بالآلاف، بينهم أطفال وأطباء ومسنّون، لمجرد أنهم فلسطينيون يعيشون تحت حصار لم يُرفع عنهم يومًا واحدًا. ومع ذلك، لا يرى ترامب في كل هؤلاء رهائن! لا يعترف بمعاناتهم، ولا يهدد إسرائيل في حال لم تُفرج عنهم، بل يهدد فقط بقتل المزيد من الفلسطينيين إذا لم تُنفّذ أوامره.

منذ بداية العدوان الأخير على غزة في أكتوبر 2023، اختطفت إسرائيل آلاف الفلسطينيين من القطاع، بينهم نساء وأطفال وكبار سن وأطباء وعمال إغاثة، زجت بهم في السجون في ظروف لا إنسانية، دون تهمة، دون محاكمة، ودون حتى الاعتراف بوجودهم في بعض الحالات. هؤلاء، وفق كل القوانين والأعراف الدولية، يُعتبرون رهائن حرب. لكن ترامب، كما الإدارات الأمريكية المتعاقبة، يصر على انتهاج سياسة الكيل بمكيالين: إذا احتجزت إسرائيل فلسطينيين، فهو “إجراء أمني”؛ أما إذا احتجزت المقاومة إسرائيليين، فهو “إرهاب” يستحق العقاب الجماعي، حتى لو كان الثمن حياة آلاف المدنيين. لماذا المعايير الأمريكية لا تنطبق إلا على الإسرائيليين، فيما يظل الفلسطينيون بلا حقوق، بلا هوية، وكأن وجودهم نفسه جريمة تستوجب العقاب؟

مشاهد توثيق عمليات اعتقال المدنيين من غزة كانت أمام أعين العالم، بالصوت والصورة، حيث جُرّ الرجال إلى السجون عراة، وتعرض “المختطفون” للضرب والتعذيب والإهانة العلنية، بينما اختفت النساء والأطفال خلف جدران المعتقلات الإسرائيلية دون أي معلومات عن مصيرهم.

وبالإضافة إلى عمليات الاعتقال، أو الاختطاف إن صح القول، فوفق أحدث إحصاءات الأمم المتحدة، فإن حجم المجازر في غزة تجاوز كل التصورات، ليصبح أحد أكثر الفصول دموية في التاريخ الحديث. أكثر من 165 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح ومفقود ومعتقل، بينهم عشرات الآلاف من النساء والأطفال، بينما لم تتوقف آلة القتل الإسرائيلية عن استهداف كل ما هو مدني، من المستشفيات إلى المدارس، ومن المنازل إلى مخيمات النازحين. التقارير تشير إلى أن أكثر من 70% من الضحايا هم من الفئات الأكثر ضعفًا، بما في ذلك النساء والأطفال وكبار السن، ما يؤكد أن هذه ليست حربًا على “الإرهاب” كما تزعم إسرائيل، بل إبادة جماعية ممنهجة تستهدف استئصال شعب بأكمله. قطاع غزة، الذي يعاني من دمار شبه كامل في بنيته التحتية، أصبح غير صالح للحياة، مع نقص كارثي في الغذاء والمياه والدواء، ومئات الآلاف من الفلسطينيين يتضورون جوعًا في ظل حصار مطبق. رغم ذلك، لا تزال القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تغض الطرف، بل وتواصل تزويد إسرائيل بالأسلحة والدعم السياسي، مما يجعلها شريكًا مباشرًا في هذه المجازر.

لماذا دم الإسرائيلي أغلى عنده من الفلسطيني؟ لماذا لا يقف مع المدنيين من منطلق إنساني بحت، بغض النظر عن انتماءاتهم وأعراقهم؟ لماذا يجعل من نفسه حاميًا وحارسًا لمصالح إسرائيل، حتى لو كان ذلك على حساب إبادة شعب بأكمله؟ ترامب، كما غيره من الساسة الغربيين، لا يرى في الفلسطيني سوى رقم يمكن محوه، بشرط ألا يتسبب ذلك في أي ضرر لصورة إسرائيل أمام العالم. أما الإسرائيلي، فهو إنسان كامل الحقوق، يجب حمايته والانتقام له بأي ثمن.

ولم يتوقف ترامب عند هذا الحد. فقبل أسابيع قليلة، خرج بتصريح آخر أكثر صلفًا، حيث قال إنه يخطط لشراء غزة وتحويلها إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”. التصريح، الذي جاء في سياق عنجهيته المعتادة، يكشف عن عقلية استعلائية استعمارية، وكأن غزة أرض معروضة للبيع، وكأن الفلسطينيين مجرد بضاعة يمكن ترحيلهم إلى أماكن أخرى، في عملية تهجير قسري معلنة لا تختلف كثيرًا عن النكبة التي مر عليها أكثر من سبعة عقود. لكن السؤال هنا: إذا كان ينوي شراء غزة، فممن سيشتريها؟ هل سيشتريها من الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يملكها أصلًا؟ أم سيشتريها من الفلسطينيين الذين يملكونها بدمائهم وأرواحهم منذ مئات السنين؟ الفكرة بحد ذاتها تعكس نظرة الغرب لفلسطين وشعبها، وكأنها سلعة تُباع وتشترى، وليس وطنًا لشعب يُباد يوميًا أمام أعين العالم.

ترامب لم يهدد حماس فحسب، ولم يهدد من يحتجزون الرهائن كما يزعم، بل يهدد المدنيين، الأطفال، النساء، العائلات التي لا تجد مأوى، الجرحى الذين تُركوا ينزفون وسط الأنقاض. إن تهديده بإلغاء وقف إطلاق النار لا يعني سوى المزيد من القتل، المزيد من الدمار، والمزيد من الفرص لإسرائيل لمواصلة جرائمها دون مساءلة. فهل سيحاسبه أحد؟ هل سيتحرك العالم لوقف هذا العبث؟ أم سيُترك الفلسطينيون وحدهم في مواجهة آلة حرب لا تتوقف، مدعومة بساسة لا يرون فيهم سوى أرقام قابلة للتصفية؟

التهديد بإلغاء وقف إطلاق النار ليس إلا حلقة جديدة في مسلسل طويل من الانحياز الفاضح لإسرائيل، حيث تُستخدم حياة الفلسطينيين كورقة ضغط سياسي، وكأنها بلا قيمة. لكن الحقيقة التي يحاول ترامب وغيره تجاهلها، هي أن غزة، رغم الجراح والمجازر، لن تُشترى ولن تُباع. غزة ستظل عصيّة على الانكسار، وأهلها سيظلون يدفعون الثمن، لكنهم لن يفرطوا في أرضهم، مهما بلغت تهديدات من يعتقدون أن بإمكانهم حكم العالم بجرة قلم.