تغيرات متسارعة باتت تشهدها الساحة السياسية الدولية، تنبئ بظهور نظام عالمي جديد تتغير فيه المعادلات، وتصنيفات الدول بين دول عظمى وأخرى متعاظمة تفتك إحداها مكانة الأخرى، وفقا للقدرات والإمكانيات الجديدة على أرض الواقع بعيداً عن ارتسامات القرن الماضي.
آخر الإشارات على هذه المستجدات، ما أطلقه الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” من لطمات في العلاقة بدول حوض البحر الأبيض المتوسط بقوله: ” أن تركيا تمارس لعبة خطيرة في ليبيا تتعارض مع جميع التزاماتها التي تعهدت بها في مؤتمر برلين”، معتبراً أن الحادث البحري الذي وقع في المتوسط قبل أيام بين فرقاطات تركية وسفينة فرنسية، هو أحد أبرز الإثباتات على ما كان قد صرّح به قبل أشهر حول «الموت السريري» للحلف الأطلسي.
رغم ما يحمله هذا الحادث من غرابة، حتى وفق الرواية الفرنسية فقد حاولت السفينة الفرنسية العضو في الحلف الأطلسي تفتيش سفينة تركية هي أيضا عضو في الحلف الأطلسي.
إن ما أشار إليه الرئيس الفرنسي يبدو أعمق من حصره في مجرد خلاف في وجهات النظر في مسألة سياسية تتعلق بليبيا، وتتجاوزه إلى فكرة تغير التوازنات الدولية القديمة التي لم يعد معها من الممكن تناول المسائل المتعلقة بمصالح الدول وفقا للأهواء والرغبات المبيَتة، فقد اتسم الموقف الفرنسي إزاء الملف الليبي بالاضطراب والتناقض الصارخ بين الاعتراف بشرعية حكومة «الوفاق الوطني» استناداً إلى قرارات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي من جهة، ولكن من جهة أخرى أيدت العميل “خليفة حفتر” وزودت جيشه بالعتاد والخبرات العسكرية والأمنية والاستطلاعية، وساندت حملته الزاحفة نحو العاصمة طرابلس.
وما يحدث الآن هو أن فرنسا بدأت تدفع اليوم ثمن حساباتها الخاطئة بالمراهنة على “حفتر”، وتوقعها انتصاره في وقت قياسي يُتاح بعده فرض أمر واقع على الأرض، يجعل التفاوض على تسوية سياسية أقرب إلى استسلام من جانب «الوفاق الوطني». اذ انقلب الحال اليوم إلى النقيض تماماً، فبات حفتر وداعموه مصر والإمارات والسعودية وفرنسا وروسيا خارج المعادلة على الميدان، بل وتغير الواقع في الإقليم كله بعد أن تجاوز مكانة حفتر وأصبح يتعلق بمكانة فرنسا التي حاولت ترسيخها منذ عقود دون أن تكون قادرة على إثباتها على أرض الواقع.
فلأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، تتعرض فرنسا للتضييق على نفوذها ومخططاتها الإستراتيجية في شمال إفريقيا، وعلى يد عدو تعرف قوته منذ عقود وهو تركيا، ولعل ما يخيف فرنسا أكثر أنها تجد نفسها هذه المرة وحدها بسبب تحفظ باقي أعضاء الاتحاد الأوروبي على سياستها تجاه ليبيا.
ويعد الحادث الأخير منعطفا في التوتر الموجود بين تركيا وفرنسا في ملفات كثيرة وعلى رأسها الملف الليبي. ويكشف في الوقت ذاته أنه لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية تتعرض مصالح ومخططات فرنسا إلى التضييق الواضح من طرف دولة جديدة في المسرح السياسي الإقليمي المتوسطي بعد نهاية الحرب الباردة. وكانت فرنسا قد عانت خلال الحرب العالمية الثانية على يد القوات الالمانية في البحر المتوسط، لكنها استمرت في بسط نفوذها المتوسطي بسبب تحالفها مع إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، مما يسر لها المحافظة على موقعها الدولي ولكن إلى حين.
وقد ذهب معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية الفرنسي “إيريس” في ورقة بحثية له إلى اعتبار أن ما حدث يعد نقطة اصطدام بين مصالح البلدين في البحر الأبيض المتوسط، والتوتر القائم في علاقاتهما منذ مدة، ومن جهـتها، أبرزت مجلة “إكسبرس” الوضع الشائك لفرنسا بعدما وضعت تركيا على الطاولة أمام باريس شروطا صعبة مقابل وقف اطلاق النار، وتتجلى في انسحاب قوات “حفتر” من منطقة “سرت”، وترى فرنسا كيف تنهار بعض مخططاتها التي كانت ترغب في تحويل ليبيا إلى منطقة نفوذ بعد أن أطاحت ثورة الربيع العربي بنظام “القذافي”، إذ اعتقدت أن الوقت قد حان ليكون النفط الليبي ملكا لها، علاوة على تحويل الأراضي الليبية إلى جسر مع منطقة الساحل الإفريقي حيث تشاد ومالي والنيجر. البلدان التي أحكمت السيطرة عليها بشتى الطرق السياسية والاقتصادية والعسكرية.
ويبدو لها الآن أن كل شيء بدأ ينهار فجأة بعد وصول منافس لا يقل عنها قوة، بل لعله يفوقها، وهي ترى الآن كل الخطط التي رسمتها تسقط الواحدة تلو الأخرى، الشيء الذي يدفعها إلى الابتعاد عن موقع ترى أنه الوحيد القادر على تلبية أطماعها بوجود ثروة هائلة مخزونة في أراضيه، يضاف إليها شواطئ غنية بالغاز الطبيعي عماد المستقبل، ولكنها تجد نفسها أيضا مطرودة منه بفعل الاتفاقية بين حكومة طرابلس وتركيا، مما يعصف بكل آمالها في إنعاش اقتصادها والعودة إلى موقع الدول الغنية القادرة على الاستمرار في مكانتها، وذلك ما يهدد وجودها بأكمله ويضرب للأبد صورتها كدولة استعمارية صاحبة إمبراطورية مترامية الأطراف.
اضف تعليقا