“لقد عثرنا على كنز معلومات داخل القنصلية”، هكذا وصفت الصحف التركية “متين طوبوز“، موظف القنصلية الأمريكية بأنقرة، والتي ألقت السلطات هناك القبض عليه، بتهم تتعلق بالانتماء لجماعة فتح الله جولن والتجسس، وسط أنباء عن التحقيق مع موظف جديد، بعد اعترافات المقبوض عليه الأول.

الأزمة بدأت قبل أيام عندما أصدرت محكمة تركية قرارًا بحبس مواطن تركي يدعى “متين طوبوز”، أحد الموظفين العاملين في القنصلية الأمريكية العامة في إسطنبول، بتهم تتعلق بالتجسس والانتماء لتنظيم فتح الله جولن، وصلات بمحاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في الخامس عشر من يوليو 2016، الأمر الذي أثار غضب واشنطن وفتح الباب أمام مزيد من التصعيد في العلاقات المتراجعة أصلا بين البلدين.

عقب ذلك، أعلنت الولايات المتحدة أنها “قلقة للغاية” من اعتقال السلطات التركية للموظف، واعتبرت أن “التهم الموجهة إليه لا أساس لها من الصحة”، وقال بيان للسفارة الأمريكية في أنقرة إن “حكومة الولايات المتحدة قلقة جدا إزاء اعتقال أحد الموظفين المحليين.. الاتهامات لا أساس لها من مجهول ضد موظفينا تقوض العلاقة المستمرة منذ وقت طويل بين البلدين”.

تصعيد مفاجئ

لكن، وفي ساعة متأخرة من مساء الأحد الماضي، ودون مقدمات، أعلنت سفارة الولايات المتحدة في أنقرة، تعليق جميع خدمات التأشيرات في مقرها وجميع القنصليات الأمريكية في تركيا، باستثناء المهاجرين، ردًا على اعتقال الموظف، في خطوة غير مسبوقة في سجل العلاقات بين البلدين الحليفين في حلف شمال الأطلسي “ناتو”.

وخلال ساعات قليلة، وردًا على هذا القرار، أعلنت السفارة التركية في واشنطن تعليق منح التأشيرات للمواطنين الأمريكيين في مقرها وجميع القنصليات التركية في الولايات المتحدة.

الاثنين 9 أكتوبر، استدعت الخارجية التركية المسؤول الثاني في السفارة الأمريكية في أنقرة فيليب كوسنيت إلى مقر الوزارة وحثته على العدول عن قرار وقف منح التأشيرات.

وفي تصعيد آخر، تحدثت وسائل إعلام تركية عن إصدار المدعي العام في مدينة إسطنبول قرار اعتقال موظف آخر يعمل في القنصلية الأمريكية بإسطنبول، مشيرة إلى أن الموظف مازال يتحصن في مقر القنصلية، ويرفض الخروج، خشية اعتقاله.

وعقب ذلك، قالت مصادر تركية إن وزير العدل عبد الحميد جول رفض طلبًا للسفير الأمريكي بأنقرة من أجل عقد لقاء بين الجانبين لبحث الأزمة.

وتأتي هذه الأزمة في ظل تشابك الخلافات بين أنقرة وواشنطن حول العديد من القضايا أبرزها دعم أمريكا للمسلحين الأكراد في سوريا ورفض البنتاغون أي تدخل عسكري تركي ضد الوحدات الكردية في عفرين والخلافات حول الملف السوري بشكل عام، بالإضافة إلى غضب واشنطن من شراء تركيا منظومة إس 400 من روسيا، والخلاف المتواصل حول رفض تسليم أنقرة فتح الله غولن المتهم بقيادة محاولة الانقلاب في تركيا.

اتصالات ومؤامرات

وسائل إعلام تركية قالت إنه، وبالتحقيق مع الموظف الموقوف، ثبت وجود مئات الاتصالات بينه وبين مديري أمن سابقين خططوا ونفذوا عمليتي 17 و25 ديسمبر 2013، والتي اعتبرها أردوغان محاولة انقلاب قضائي ضده، وكذلك بينه وبين أشخاص شاركوا بالمحاولة الانقلابية العسكرية الفاشلة يوليو 2016، واتصالات أخرى بـ 121 شخصا شخصًا تجري بحقهم تحقيقات على خلفية انتمائهم لمنظمة “جولن”، وكذلك اتصال مع المدعي العام السابق الفار “زكريا أوز” أحد المسؤولين عن عمليتي 17 و25 ديسمبر.

مجلة “إيكونوميست” البريطانية اعتبرت، في تقرير لها، أن التدهور في العلاقات بين واشنطن وأنقرة ليس وليد تلك الحادثة، بل إن هناك حالة عدم ثقة بين الطرفين، فـ “تركيا” تعتقد أن للولايات المتحدة يدا في عملية الانقلاب الفاشلة، منتصف يوليو 2016، علاوة على انتقاد واشنطن لتسليحها مليشيا كردية في سوريا، بينما تقول واشنطن إن أنقرة كانت تغض الطرف عن أنشطة لـتنظيم الدولة وحركات “إسلامية أخرى” على جانبها من الحدود حتى عام 2015،بالإضافة إلى اعتماد تركيا المتزايد على روسيا فيما يتصل باحتياجاتها الأمنية.

وأوردت بعض ما ترتب على تبادل منع تأشيرات الدخول على الاقتصاد التركي مثل انخفاض الليرة بنسبة 6.6% أمام الدولار الأمريكي، واصفة ذلك بأنه أكبر انخفاض منذ محاولة الانقلاب العام الماضي، وانخفاض قيمة أسهم الخطوط الجوية التركية بنسبة 8%.

استفتاء كردستان

يرى محللون أن تركيا رصدت دعما أمريكيا خفيا للاستفتاء الذي أجراه إقليم كردستان، منذ أسابيع، رغم تصريح واشنطن بعدم الاعتراف بنتائجه، وعلى هذا الأساس يرى أردوغان أن تصرفات ترامب لم تعد تحتمل.

ويُعتقد أيضا أن ورقة القبض على موظف القنصلية كانت متوفرة لدى تركيا منذ فترة، لكنها لم تشأ زيادة التوتر مع واشنطن، أملا في تقارب على أسس حقيقية، لكن الاستفتاء الكردي دفع أردوغان إلى المضي قدما في تصعيد من نوع جديد، لا سيما بعد أن وصل لمرحلة متقدمة من التفاهمات السياسية والعسكرية مع روسيا.

ويؤكد مسؤولون أتراك أن أنقرة زودت واشنطن بدلائل واضحة حول وقوف “فتح الله جولن” وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، لكن الأخيرة لا تزال ترفض تسليمه، وتماطل، وهو ما يعد في العرف التركي جرحا يأبى الوصول إلى تطبيع حقيقي للعلاقات، ومن هنا جاء التصعيد التركي الجديد في قلب القنصلية الأمريكية ليبعث برسالة واضحة إلى إدارة ترامب بأن الأتراك لم ولن ينسوا ملاحقة المتورطين في انقلاب يوليو 2016 الفاشل.

قلق أمريكي

ويرى الأتراك أن مبادرة واشنطن بالتصعيد بشكل مفاجئ في أزمة القنصلية يعبر عن قلق من شيء ما لا تريد كشفه.

وهو ما ضاعف حماستهم للمضي قدما في هذا الخيط للنهاية، بدليل استدعاء موظف جديد للتحقيق، وحديث وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو عن أنه “لا أحد لديه حصانة حينما يتعلق الأمر بالأمن القومي التركي”.

روسيا أيضا

هنا يثور سؤال رغم كونه غريبا بعض الشيء.. هل لروسيا دور في الأمر؟

بالإضافة إلى أنه في تلك اللعبة الدائرة لا ينبغي استبعاد شيء، فإن موسكو قد تكون لها مصلحة في تلك الأزمة، وقد تكون هي من زودت الأتراك بمعلومات حول إمكانية تورط موظفين بالقنصلية الأمريكية في محاولتي الانقلاب القضائية والعسكرية ضد أردوغان.

الروس يريدون تعميق تفاهماتهم مع الأتراك عبر إبعادهم عن الأمريكيين الذين أظهروا حرصا ظاهريا على التقارب مع تركيا، بالإضافة إلى أن ما فعلته الولايات المتحدة بحق القنصلية الروسية في سان فرانسيسكو، ما أشعل الغضب الروسي، لا سيما ضد مسؤولي الخارجية الأمريكية الذين يتزعمون الضغط على موسكو، منذ لحظة اتهامها بالتدخل في نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة لصالح ترامب، وهو ما أدى أيضا إلى شرخ في العلاقات بين ترامب والخارجية كمؤسسة.

إن ثبت وقوف الروس وراء التصعيد التركي، فإن موسكو تكون قد ردت الضربة إلى الولايات المتحدة، صحيح أنها بشكل غير مباشر، ولكن في الملعب الدبلوماسي أيضا، وإفساد التقارب التركي مع الخارجية الأمريكية قد يكون هدفا للروس في حد ذاته، ولا يجب نسيان أن بوتين هو من حذر أردوغان ببداية الانقلاب عليه، ما أسهم في نجاة الرئيس التركي من الاغتيال، بحسب تحليلات.