قامت روسيا بتكثيف قصفها الجوي أواخر عام 2021 ومطلع 2022 على مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة بشار الأسد، وكانت تبعث بذلك رسائلها عبر الصواريخ وأشلاء المدنيين.

وإضافة لاستهداف المنازل السكنية، كان بنك الأهداف الروسي منصبًا على البنية التحتية في الشمال السوري، عبر توجيه ضربات طالت منشآت حيوية، بينها محطة مياه تغذي مئات الآلاف من السكان.

فمنذ مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2021 بدأت موجة تصعيد عسكري من قبل النظام السوري وروسيا على قرى ريف إدلب المشمول بوقف إطلاق النار المعلن منذ 5 مارس/ آذار 2020 بين موسكو وأنقرة.

وهذا الخرق الروسي، طال محطة مياه “العرشاني” غربي إدلب وهي إحدى محطات المياه الرئيسة بالمدينة، حيث تعرضت لغارات جوية روسية مباشرة في 2 يناير/ كانون الثاني 2022، أدت لدمار كبير فيها وخروجها عن الخدمة. وكانت تخدم المحطة أكثر من 350 ألف نسمة في مدينة إدلب وريفها، وهي مدعومة من قبل منظمة “غول” الإنسانية، فضلا عن وقوعها بعيدًا عن المناطق السكنية، ولا يوجد فيها معدات عسكرية.

وخلال الأسبوع الأول من عام 2022 وثقت فرق الدفاع المدني السوري المعارض مقتل طفلين وامرأة وإصابة 17 مدنيا بينهم 8 أطفال في شمال غربي سوريا، جراء 32 غارة جوية روسية.

ومنذ ديسمبر/كانون الأول 2021 استهدفت الغارات الجوية الروسية سبعة مزارع لتربية الدجاج في شمال غربي سوريا، ومعملا لإنتاج المواد الغذائية.

وهذا ما يؤكد الاستهداف الممنهج من قبل روسيا للبنية التحتية في الشمال السوري، الذي يعيش فيه نحو 5 ملايين نازح سوري على الحدود السورية التركية ويتلقون مساعدات أممية عبر معبر “باب الهوى” الحدودي، وهو الشريان الوحيد المفتوح لإغاثتهم.

وأدانت السفارة الأميركية في سوريا الهجمات، مؤكدة في منشور عبر تويتر بتاريخ 5 يناير 2022 إنها “تضر بالبنية التحتية المدنية الحيوية، بما في ذلك محطة مياه بالقرب من إدلب تخدم مئات الآلاف من السوريين”.

 ودعت واشنطن إلى “وقف فوري للتصعيد من قبل النظام وروسيا واحترام وقف إطلاق النار في سوريا”.

وفق ما نقلت وكالة فرانس برس في 4 يناير 2022، اعتبرت المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية، آن كلير لوجاندر أن “استمرار الهجمات التي يشنها النظام السوري وروسيا على البنى التحتية المدنية، هو انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني”.

وحول الأسباب المباشرة لاستهداف روسيا للبنية التحتية في الشمال السوري، أكد مدير منظمة الدفاع المدني السوري التابع للمعارضة (الخوذ البيضاء)، رائد الصالح أن “استهداف روسيا المدنيين والمنشآت الحيوية والبنى التحتية جريمة حرب ضد الإنسانية وفق القانون الدولي والإنساني”.

وأضاف أن “هذه التطورات تأتي استمرارًا لسياسة روسيا في سوريا، حيث استهدفت آلاف المرافق الخدمية والمعامل والمدارس والمساجد وعشرات المشافي والمراكز الطبية منذ بدء تدخلها لدعم نظام الأسد في قتل السوريين”. وشدد الصالح على أن “هذا الاستهداف الممنهج من قبل روسيا يهدف إلى تهجير أعداد إضافية من السوريين نتيجة تدمير مقومات الحياة”.

وتابع: تريد روسيا حرمان مئات الآلاف في شمال غربي سوريا من الحصول على مياه صالحة للشرب، وتدمر عوامل الاستقرار ومصادر الدخل وتهديد الأمن الغذائي عبر استهداف مزارع تربية الدواجن ومعامل المواد الغذائية.

وألمح مدير منظمة الدفاع المدني السوري إلى أن هذا التصعيد يأتي “في وقت تسعى فيه روسيا لعدم تمديد تفويض آلية إدخال المساعدات عبر الحدود وتحويلها لصالح إدخال المساعدات عبر خطوط التماس، أي عبر مناطق سيطرة نظام الأسد”.

وفسر ذلك بالقول: “لتجعل منها سلاحًا بيدها وبيد الأسد لتمارس سياسة التجويع والحصار كما مارستها في درعا والغوطة وداريا والزبداني وحمص وحلب، وكما تمارسها الآن في مخيم الركبان”.

وأكد الصالح أنه “في الوقت الذي يجب أن يكون هناك جدية وسعي لوقف نزيف دماء السوريين وفرض حل سياسي وإنهاء الحرب المستمرة منذ نحو 11 عاما وعودة المهجرين إلى منازلهم، نرى مزيدًا من التعنت الروسي لفرض حالة من عدم الاستقرار وتدمير البنية التحتية وعوامل الإنتاج في شمال غربي سوريا”.

وأشار إلى أن “الهجمات الروسية هي رسائل للمجتمع الدولي أنها مستمرة في سياسة القوة والقتل والتدمير فكلما رأت تراجعًا وتقهقرًا في الموقف الدولي، زادت من جرعة الموت”.

وتابع: “روسيا لا ترى في أجساد السوريين ومنازلهم ومنشآتهم وأي شيء يقدم لهم الحياة إلا ساحة لتجريب أسلحتها، لا يوجد أي قيمة لديها للأرواح”.

وتؤكد منظمات عاملة في الشمال السوري أن استلام النظام السوري للمساعدات الإنسانية وتوزيعها كما ترغب روسيا، هي بمثابة سلاح جديد يسلط على رقاب النازحين.

 إذ سيعتمد النظام مجددًا أساليب الابتزاز والمماطلة التي جرى التعامل بها في مناطق سورية أخرى قبل السيطرة عليها، فضلًا عن السرقة من المساعدات.

وكشفت دراسة أجراها باحثون من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (مقره واشنطن)، ومركز السياسات وبحوث العمليات (مقره غازي عنتاب)، أن النظام السوري، يسرق ملايين الدولارات من المساعدات الخارجية عبر إجبار وكالات الأمم المتحدة على استخدام سعر صرف أقل للدولار.

وأكدت الدراسة الصادرة في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021، أن البنك المركزي التابع للنظام، المعاقب دوليًا، حقق ما يقارب 60 مليون دولار أميركي في 2020، من خلال جمع 0.51 دولار من كل دولار مقدم إلى المساعدات المرسلة إلى سوريا.

وتبنى مجلس الأمن الدولي قرارًا جديدا حول سوريا يحمل رقم 2585 في 9 يوليو/تموز 2021، يقضي بتمديد التفويض الممنوح لآلية المساعدات الإنسانية عبر الحدود السورية التركية من معبر باب الهوى شمال إدلب، لمدة 12 شهرًا.

وما تسعى إليه روسيا حاليًا هو الحصول على قرار من مجلس الأمن لاستخدام آلية المساعدات عبر خطوط التماس بين مناطق النظام السوري والمعارضة الواصلة إلى مناطق شمال غرب سوريا.

وفريق “منسقو استجابة سوريا” المعارض، يرى أنه لا يمكن مقارنة آلية إدخال المساعدات عبر الحدود مع مثيلتها عبر خطوط التماس، خاصة أن نسبة مساهمة المساعدات عبر الخطوط لا تتجاوز نسبة واحد بالمئة من عمليات الاستجابة الإنسانية بالمنطقة.

ويؤكد الفريق في بيان له صادر بتاريخ 22 ديسمبر 2021 أن المساعدات الإنسانية عبر الحدود، هي الحل الأمثل لمكافحة الأزمة الإنسانية التي تعاني منها مناطق شمال غربي سوريا.

 إذ إن دخول المساعدات عبر خطوط التماس لكون النظام السوري يمتلك مطارات قادرة على استقبال شحنات المساعدات الدولية، سيمكنه من “احتكار تلك المساعدات وتوظيفها لأغراض سياسية وعسكرية واقتصادية وفقدها لغاياتها الإنسانية”.

كميا سيجوع النظام المدنيين في المناطق الخارجة عن سيطرته بغية إخضاعهم للعودة إلى مناطق نفوذه”، وفق الفريق.

ولطالما أثبتت الوقائع الميدانية أن فشل روسيا على الصعيد السياسي يصب في صالح النظام السوري، ويترجم هذا على الفور عبر الآلات العسكرية من خلال استهداف المدنيين في الشمال السوري.

وتعمد روسيا إلى الضغط على تركيا التي تعد راعية للشمال السوري، عبر التصعيد في عملية انتقام واضحة عند فشل أي تفاهمات أو مباحثات بين موسكو وأنقرة ترفضها الأخيرة.

من جانبه قدم مدير مركز القارات الثلاث للدراسات الباحث السوري أحمد الحسن، قراءة معمقة للأسباب الخفية وراء التصعيد الروسي أخيرًا على الشمال السوري.

وقال الحسن: “ساهم الرفض التركي لثلاثة مشاريع عملت عليها روسيا خلال الاجتماعات الأخيرة في أستانا، على صعيد الخبراء ضمن اتفاقية إدلب، في توتير الواقع الميداني في منطقة خفض التصعيد”.

وبدأت محادثات “أستانا” في كازاخستان بشأن سوريا عام 2017، بين المعارضة السورية والنظام، تحت رعاية الدول الضامنة الثلاث تركيا وروسيا وإيران، من أجل إيجاد حل للقضية السورية، وانتهت الجولة الأخيرة في 22 ديسمبر 2021.

وأوضح الحسن أن “تركيا تعتمد حاليا آلية مشابهة لآلية روسيا بخصوص المقترحات حيث يتم الموافقة على الأفكار العامة التي تقدمها روسيا في بعض المشاريع ثم التحفظ على البنود التفصيلية في هذه المشاريع وإغراقها بالتفاصيل”.

وفصل مدير مركز القارات الثلاث للدراسات هذه المشاريع التي تحفظت عليها تركيا وهي: “الأول: مشروع التعاون في مكافحة الإرهاب الذي عرضته روسيا على تركيا، حيث وافقت تركيا على التعاون المشترك في مكافحة الإرهاب في كامل المناطق السورية مع التحفظ على البنود التي طرحتها موسكو والمطالبة بتعديلات مهمة فيها”.

وتابع قائلا: “من البنود التي تحفظت عليها تركيا، البند المتعلق بمكافحة الإرهاب في مناطق الشمال السوري حيث أدرجت روسيا التعاون تجاه قسد مقابل التعاون ضد هيئة تحرير الشام، لكن تركيا اشترطت أن تجري آلية مكافحة الإرهاب مقيدة بقواعد جديدة لا تشمل تهديد المدنيين ولا عمليات عسكرية جديدة في الشمال، وإنما تشمل فقط مكافحة المجموعات غير المنضبطة”.

ومضى الحسن يقول: “وحسب هذه الرؤية التركية اعتبرت هيئة تحرير الشام غير معطلة لاتفاقيات أستانا وسوتشي، ومنضبطة بقواعد العمل المشتركة بينما اعتبرت قسد غير ملتزمة بهذه القواعد”.

وأضاف: “ولهذا اقترحت تركيا التعاون في شمال غرب سوريا ضد مجموعات تنظيم الدولة وخلايا القاعدة، وذلك بالتعاون مع هيئة تحرير الشام والمعارضة السورية، وكذلك التعاون في شمال شرق سوريا ضد حزب العمال الكردستاني “بي كا كا” والمجموعات القريبة له أيضًا، على أن تتم آلية مكافحة الإرهاب وفق قواعد سوتشي وأستانا وليس عبر عمليات عسكرية مباشرة”.

أما المشروع الثاني، وفق الحسن، “يتعلق بتعديلات اتفاقية أضنة، حيث قدم الجانب الروسي تعديلات الاتفاقية بهدف إقناع تركيا بالموافقة على جدول زمني للانسحاب من سوريا وعودة العلاقات السياسية والأمنية مع النظام السوري، على أن تشمل تعديلات اتفاقية أضنة إمكانية التدخل العسكري التركي بحدود 35 كم، ووافقت تركيا على هذا المشروع الروسي لكنها تحفظت على البنود الخاصة به”.

حيث اعتبرت أنقرة أن “اتفاقيات سوتشي وأستانا تشمل الفترة التي تسبق مرحلة الحل السياسي، وأن اتفاقية أضنة خاصة بمرحلة ما بعد انتشار الحكومة الشرعية الجديدة على كافة الأراضي السورية، وهذا يجعل مشروع أضنة المقترح في مرحلة ما بعد الانتقال السياسي والانتخابات في سوريا، واعتبرت روسيا هذا التوجه التركي إفشالًا للمقترح الروسي”.

وتقضي اتفاقية أضنة الموقعة بين سوريا وتركيا عام 1998 بأن تتوقف دمشق عن دعم “بي كا كا”، وعدم السماح لعناصر الحزب في الخارج بدخول سوريا، وحظر أنشطة الحزب والمنظمات التابعة له على أراضيها. كما تسمح لتركيا بتعقب عناصر التنظيم داخل الأراضي السورية بعمق 5 كيلومترات.

وأما المشروع الثالث يتعلق، وفق مدير مركز القارات الثلاث للدراسات، بـ “الدور التكاملي ما بين منصة أستانا وجنيف، حيث وافقت تركيا على مشروع روسي بربط منصة أستانا بمنصة جنيف والتمهيد لوقف إطلاق نار شامل”.

واستدرك: “لكنها تحفظت على بنود المقترح الروسي بخصوص تسليم المنطقة الحدودية في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام وقسد للنظام واقتصار تركيا على مناطق سيطرة المعارضة”.