العدسة – منصور عطية
لم يتوقف التسريب الصوتي الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية السبت، عن إثارة الجدل في الأوساط السياسية والإعلامية، بعد أن كشف قبول الرئيس عبد الفتاح السيسي ضمنًا قرار أمريكا اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارتها إلى هناك، وتسويق رام الله عاصمة بديلة.
وأوردت الصحيفة أن ضابط مخابرات مصري يُدعى “أشرف الخولي” اتصل هاتفيا بمقدمي عدد من البرامج الحوارية المؤثرة في مصر، وقال لهم إن القاهرة شأنها في ملف القدس شأن جميع إخوانها العرب، ستشجب ظاهريًّا قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لكن المهم لمصر هو إنهاء معاناة الفلسطينيين من خلال حل سياسي يتمثل في اتخاذ رام الله عاصمة لفلسطين بدل القدس.
وأضافت نيويورك تايمز أن الضابط المصري طالب مقدمي البرامج بإقناع المشاهدين بقبول قرار “ترمب” بدل إدانته، مؤكدًا أن الصراع مع إسرائيل لا يصب في مصلحة مصر الوطنية.
وأوضحت الصحيفة أن “الخولي” طلب هذا الأمر من 4 إعلاميين، بحسب 4 تسجيلات صوتية لمكالماته الهاتفية، وهم عزمي مجاهد، ومفيد فوزي، وسعيد حساسين، إضافة إلى الممثلة يسرا.
موقف حقيقي
ولعل السيناريو الأول في محاولة تفسير هذا التسريب، مع الجزم بصحته وفق اعتراف عزمي مجاهد الذي أوردته الصحيفة، يقود إلى أنه يعبر بصدق عن حقيقة الموقف المصري، الذي اختبأ وراء سعي حثيث من أجل رفض القرار الأمريكي بمشروع قرار في مجلس الأمن وقيادة موجة عربية للمواجهة.
ويبدو التسليم بهذا السيناريو منطقيًّا وفق العديد من الشواهد السابقة على الكشف عن هذا التسريب، ففي أعقاب القرار، قالت القناة العاشرة بالتليفزيون الإسرائيلي، إن قرار نقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة “لا يمكن أن يتم دون التنسيق عربيًّا”.
وكشف مراسل القناة العبرية أن كلاً من السعودية ومصر “أعطتا “ترامب” الضوء الأخضر لتنفيذ قراره ونقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، تمهيدًا للقرار الكبير بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل”، وفق تقارير إعلامية.
وتابع المراسل: “ومن المؤكد أن إعلان “ترامب” وبداية إجراءات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والتي يعتقد البعض أنها قد تشعل المنطقة، لم يكن ممكنًا أن يتم دون التنسيق مع السعودية ومصر، فالفلسطينيون، يدفعون ثمن التغييرات الكبرى في المنطقة”.
كما يعزز من واقعية هذا السيناريو الذي يكشف تلونًا في الموقف المصري، طبيعة العلاقة بين السيسي ودولة الاحتلال حتى قبل وصوله إلى سدة الحكم، فالمدير السياسي والعسكري لوزارة الدفاع الإسرائيلية عاموس جلعاد قال في تصريحات صحفية بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي في يوليو 2013 إن السيسي، وزير الدفاع حينها، “زعيم جديد سوف يتذكره التاريخ”، وأنه “أنقذ مصر من السقوط في الهاوية”.
تقارير إعلامية، نقلت العديد من تعليقات الحاخامات اليهود عن السيسي وقراراته وسياساته، وصلت إلى حد أن رأوه “معجزة”.
وبعد وصوله للرئاسة، تضمن الأمر تعاونًا وثيقًا وغير مسبوق في المجالات الأمنية والعسكرية والإستراتيجية، وسياسيًّا وصلت إلى لقاء معلن هو الأول من نوعه بين السيسي ورئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، في سبتمبر الماضي، بعد مرحلة جس نبض بشأن لقاءات أخرى سرية.
لكن يلفت الأنظار في هذا السياق، الموقف المصري الرسمي المعلن والذي يرفض بشدة قرار “ترامب” ويسعى لمواجهته في المحافل الدولية، عبر مشروع قرار قدمته القاهرة في مجلس الأمن، ثم جهود دبلوماسية حثيثة أسفرت عن رفض عارم بالجمعية العامة للأمم المتحدة للقرار.
وبطبيعة الحال، يمكن فهم هذا التناقض بين ما هو معلن وما هو حقيقي، أنه لا يعدو كونه ذرًا للرماد في العيون؛ حتى لا يُتهم الموقف الصري بالميوعة أو التواطؤ أو خلافه، باعتبار علاقتها الخاصة بالقضية الفلسطينية تاريخيا وجغرافيا وسياسيا وأمنيا.
من اتصل بالإعلاميين؟
ثمة سيناريو آخر يخالف السابق، ويقود إلى أن ما كشفه التسريب ليس هو الموقف المصري الحقيقي من قرار “ترامب”، بل إن القاهرة عبرت رسميا وبشكل معلن عن حقيقة موقفها الرافض للقرار.
إذن فالأمر ينطوي على محاولة لتوريط السيسي، وزيادة علامات الاستفهام والاتهامات التي تلاحقه بالسعي لتصفية القضية الفلسطينية وموالاة أمريكا والاحتلال، في المواقف التي تخص القضية.
تلك المحاولة، يبدو للوهلة الأولى أن ضابطًا بالمخابرات العامة هو من قام بها من تلقاء نفسه، أو بإيعاز من قادة في الجهاز، أو ربما بتكليف من قادة آخرين في أحد الأجهزة الأمنية أو السيادية الأخرى المعارضة لتوجهات السيسي.
لكن لماذا لا يستبعد أن يكون “أشرف الخولي” هذا شخصية وهمية لا وجود له في الواقع، فضلًا عن كونه ضابط مخابرات من عدمه، الأمر الذي يشكك بداية في صحة التسجيل الصوتي.
إلا أن المتعارف عليه إعلاميًّا، أن الضابط الذي يعمل بمثابة المكلف بنقل توجيهات وتعليمات الأجهزة السيادية إلى وسائل الإعلام، يكون معروفًا لدى مشاهير الإعلاميين بالاسم، ويكون التواصل بينه وبينهم مستمرًّا، خاصة في الأحداث الهامة والمواقف الحساسة.
وليس من المنطقي أن يتصل أحدهم بإعلاميٍّ ما دون سابق معرفة، ويخبره أنه ضابط بأحد الأجهزة، فيصدقه الإعلامي على الفور، ويبدأ في استقاء التعليمات والتعهد بتنفيذها فورًا.
فتش عن صراع الأجهزة
الأخطر في هذه القضية، يشير إلى أمر يُثار بين الحين والآخر، منذ وصول السيسي إلى سدة الحكم، وهو الحديث عن الصراع القائم بين أجهزة الدولة الأمنية والمعلوماتية والعسكرية.
وفق هذا المُعطى، فإن أجهزةً ما في الدولة تعمدت تشويه صورة السيسي بهذا التسريب، وزيادة اللغط المتراكم بشأن فشله في تحقيق وعوده الرئاسية، مع قرب انتهاء فترته الأولى والاستعداد لمعركة انتخابية بعد أشهر معدودة.
معركة الانتخابات هذه تعزز من سيناريو الصراع بين الأجهزة، وهو الصراع الذي يُعزى إليه صعود نجم الفريق أحمد شفيق، رئيس وزراء مصر الأسبق، كمرشح محتمل للرئاسة، ثم تراجعه فيما بعد على وقع ضغوط مورست ضده، نظرًا لما يتمتع به من شعبية ونفوذ داخل الجيش ومؤسسات الدولة تضاعف فرصه في حسم المعركة لصالحه.
هذا التدافع المفترض بين أجنحة في السلطة، خرج إلى العلن للمرة الأولى، عبر مقال للكاتب اليساري عبد الله السناوي، نشرته صحيفة “الشروق” في مارس 2016، وتحدث عن “صراع منفلت” بين أجهزة الدولة الأمنية والسيادية.
وكتب عن هذا الصراع: “في غياب السياسة تقدم الأمن لملء الفراغ، واكتسب نفوذًا يتجاوز مهمته، وتحولت إدارات الدولة إلى ما يقارب إقطاعيات المماليك، دون سياسات تحكم التصرفات، كما نشأت مراكز قوى جديدة تضم بعض الأمن، وبعض الإعلام، وبعض رجال الأعمال، اتسع نفوذها بغير سند دستوري في صناعة القرار والتحكم في التوجهات العامة”.
اضف تعليقا