لم يكن يوم 30 يناير 2025 يومًا عاديًا في غزة، بل كان يوما يعكس التحولات العميقة التي فرضتها المقاومة الفلسطينية على معادلة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. في قلب خان يونس وجباليا، وبجانب بيت الرمز الفلسطيني البطولي الشهيد يحيى السنوار، احتشد الآلاف من الفلسطينيين مجددا في مشهد تاريخي أثناء تسليم الأسرى الإسرائيليين، ليؤكدوا أن المقاومة ليست فقط قوة عسكرية بل قوة شعبية قادرة على توحيد الفلسطينيين وإعادة رسم ملامح المواجهة مع الاحتلال.

هذه العملية المبهرة لم تكن مجرد خطوة بروتوكولية في اتفاق التبادل، بل كانت رسالة سياسية وعسكرية وإعلامية تحمل في طياتها الكثير من المعاني، وأظهرت أن المقاومة الفلسطينية لم تعد فقط في موقع الدفاع، بل باتت تفرض شروطها وقواعد لعبتها على الاحتلال، بعد أن مرغت أنفه في رمال غزة طيلة الشهور الماضية.

الاحتشاد الجماهيري.. رسالة إصرار وصمود

كان الاحتشاد الفلسطيني الكبير أثناء عملية التسليم في خان يونس وجباليا مشهدًا يعكس مدى ارتباط الشعب الفلسطيني بمقاومته، وثقته بقدرتها على فرض إرادتها. هذه الحشود التي ملأت الشوارع لم تكن مجرد تجمعات عابرة، بل كانت استفتاءً شعبيًا يؤكد أن المقاومة تمثل الإرادة الحقيقية للفلسطينيين، وأن أي محاولات لإضعافها أو عزلها عن الحاضنة الشعبية ستبوء بالفشل.

على مدار العقود الماضية، وخاصة في حرب الإبادة الأخيرة سعى الاحتلال الإسرائيلي إلى فصل المقاومة عن الشعب الفلسطيني عبر سياسات التهجير والإبادة والتجويع والحصار والقمع، لكنه فشل مجددًا كما ظهر في هذا المشهد الحاشد. فالتظاهرات العفوية التي خرجت أثناء التسليم أظهرت أن الفلسطينيين لا يرون في المقاومة مجرد فصيل عسكري، بل قيادة شرعية تمثلهم وتحمل تطلعاتهم.

دلالات عسكرية وسياسية: عندما تتحكم المقاومة بالمشهد

لطالما حاول الاحتلال الإسرائيلي تصدير صورة مفادها أن المقاومة الفلسطينية في غزة عبارة عن مجموعات معزولة تعمل بشكل غير منظم، لكن عملية تسليم الأسرى جاءت لتنسف هذه الدعاية الإسرائيلية بالكامل.

حيث كان تسليم الأسرى الإسرائيليين إلى الصليب الأحمر يتم وفق إجراءات أمنية محكمة، وفي مواقع محددة بعناية، بعيدًا عن فوضى الاحتلال التي تظهر في عمليات تبادل الأسرى التي تنظمها إسرائيل، بالإضافة إلى ظهور الأسرى بصورة مهندمة وبلباس نظيف وصحة جيدة، على عكس الأسرى الفلسطينيين الذين يخرجون من السجون الإسرائيلية كمن خرج من القبر.

 لم تكن عمليات تسليم الأسرى بهذه الصورة جزء من اتفاق وقف إطلاق النار، بل كانت جزءًا من تكتيك المقاومة في إثبات وجودها، وكشف أمام العالم الفرق بين سمو المقاومة الأخلاقي وانهيار وسادية الإحتلال الذي سعى إلى تسليم سريع وهادئ للأسرى بعيدًا عن الأضواء، لكن المقاومة حوّلت الحدث إلى استعراض للقوة، وإلى نقطة جديدة في سجل هزائم الاحتلال.

الغضب الإسرائيلي.. حين تنقلب الطاولة على المحتل

لم يكن الاحتلال يتوقع أن تتحول لحظة تسلم أسراه إلى لحظة إذلال سياسي وعسكري أمام العالم، وهو ما يفسر حالة الغضب العارمة التي اجتاحت الأوساط السياسية والعسكرية الإسرائيلية عقب العملية.

فور انتشار المشاهد القادمة من غزة، شنّ اليمين الإسرائيلي المتطرف هجومًا شرسًا على الحكومة الإسرائيلية، واعتبر أن الطريقة التي تم بها التسليم تعد انتصارًا دعائيًا للمقاومة.

وزراء في حكومة نتنياهو، بينهم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وصفوا المشهد بأنه “إهانة لإسرائيل ويجب الرد عليها بقوة”.

وقد كشفت تقارير عبرية أن الاحتلال أرسل رسائل غاضبة للوسيطين المصري والقطري بسبب الطريقة التي جرت بها عملية التسليم، متهمًا المقاومة الفلسطينية بمحاولة استغلال المشهد سياسيًا، وقد  أعلن الاحتلال أنه سيوقف عمليات الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين لأجل غير مسمى قبل أن يتراجع عن ذلك بعدها بساعات قليلة.

ما بعد عملية التسليم.. ماذا يعني هذا الانتصار الرمزي؟

لم تكن هذه العملية مجرد تسليم لأسرى إسرائيليين، بل كانت تجسيدًا واضحًا لقوة المقاومة وقدرتها على فرض قواعد جديدة في الصراع، فعملية التسليم لم تكن مجرد حدث ميداني، بل كانت حدثًا وطنيًا وحد الفلسطينيين في غزة وأعاد التأكيد على مركزية المقاومة في المعركة ضد الاحتلال.

كما أن التنظيم العالي والدقة في تنفيذ العملية أرسل رسائل للمجتمع الدولي بأن المقاومة ليست مجموعات مسلحة فوضوية، بل قوة منظمة قادرة على إدارة مفاوضات وتفاهمات معقدة.

إسرائيل، التي كانت تسعى لإبادة غزة وتحقيق انتصار ساحق على المقاومة، وجدت نفسها مرة أخرى في موقف ضعف، وعاجزة عن إخفاء حقيقة أن المقاومة لم تنكسر، بل أصبحت أقوى وأكثر قدرة على التأثير في المشهد الإقليمي والدولي.

ويبقى السؤال الأهم: كم مرة سيتجرع الاحتلال هذه الإهانة قبل أن يعترف بأنه خسر معركته أمام إرادة شعب لا يُهزم؟