طويت صفحة الانتخابات البلدية في إسطنبول كبرى المدن التركية بإعادة انتخاب أكرم إمام أوغلو مجدداً رئيساً لبلديتها، بعد جولة أولى أحاطت بها مخالفات وشبهات تزوير مايو الماضي، ألغت على إثرها اللجنة العليا للانتخابات النتيجة استجابة لطلب من حزب العدالة والتنمية الحاكم.
وفاز إمام أوغلو بنتيجة كاسحة على منافس الحزب الحاكم بن علي يلديريم بنسبة 54.21 % مقابل 44.99 % للأخير بفارق أكثر من 750 ألف صوت، علماً أن الفارق بينهما في الانتخابات الماضية الملغاة والتي جرت في 31 مارس الماضي كان 13 ألف صوت فقط.
ويأتي فوز إمام أوغلو البالغ من العمر 49 عاماً وهو من حزب الشعب الجمهوري العلماني المعارض، بهذه النتيجة ليفتح صفحة جديدة في تاريخ السياسة التركية، فالنسبة التي حققها يوم الأحد (23 يونيو) هي الكبرى في تاريخ انتخابات بلدية إسطنبول.
وينظر إلى من يتولى بلدية إسطنبول على أنه مرشح بقوة لمناصب أعلى مستقبلاً إذا ما نجح في إداراتها، لكونها تساهم بـ 22% من الناتج المحلي للبلاد ويقطنها أكثر من 16 مليون نسمة من مختلف المشارب التركية.
فالرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، على سبيل المثال، بدأ مسيرته السياسية من مدينة إسطنبول عام 1994، عندما انتُخب رئيساً للبلدية مرشحاً عن حزب الرفاه الإسلامي، بزعامة نجم الدين أربكان، الذي تم حله لاحقاً ودخل أردوغان السجن لعدة أشهر، ومُنع من تولي منصب حكومي بعد إلقائه قصيدة دينية في مهرجان خطابي، ليخرج بعدها وأمامه حياة سياسية حافلة.
ولم تخرج مدينة إسطنبول منذ عودة الديمقراطية لتركيا في عهد الرئيس الراحل تورغوت أوزال في تسعينيات القرن الماضي عن سيطرة الأحزاب ذات الميول الإسلامية المحافظة، فمنذ العام 1994 تناوبت على حكمها وتركت بصمة كبرى ستساعد إمام أوغلو في البناء عليها خاصة في فترة حكم العدالة والتنمية التي استمرت منذ العام 2004 وحتى يوم 23 يونيو 2019، أي إن المدينة لم تخرج عن سيطرة هذه الأحزاب منذ ربع قرن.
وكان توجه المعارضة السياسي والأفكار العلمانية طاغياً في احتفالات أنصار إمام أوغلو، حيث هتفوا ضد وجود المهاجرين في البلاد، في حين انتشرت مقاطع فيديو تظهر محتفين بفوزه برش قناني الكحول، وهو ما لم يكن معتاداً لسنوات.
من هو؟
أكرم إمام أوغلو هو أحد الصاعدين في الساحة السياسية التركية، وينتمي إلى جيل الشباب نسبياً، بعكس قيادة حزب الشعب الجمهوري الذي ينتمي إليه ويتزعمه كمال كليجدار أوغلو البالغ من العمر 71 عاماً.
ولفت إمام أوغلو اهتمام الأتراك بخطاب هادئ وتصالحي، حيث تفادى إثارة الانقسام واستفزاز الناخبين، حتى إن له مواقف من السوريين والأكراد بخلاف مواقف حزبه التي تهاجمهم بتصريحات توصف بـ”العنصرية”.
ففي المناظرة الشهيرة بينه وبين يلديريم في 16 يونيو الجاري، وصف إمام أوغلو التصريحات المعادية للسوريين بـ”بالعنصرية والمعيبة”، كما أكد أن الأكراد جزء لا يتجزأ من المجتمع التركي ومن المعيب ممارسة سياسة التفرقة معهم.
وفي جولة الإعادة التي فاز بها رفع شعاراً بات على لسان شريحة واسعة من الأتراك وهو “كل شيء سيكون جميلاً جداً”، ما اضطر الحزب الحاكم المنافس له إلى إطلاق شعار “كل شيء سيصبح أجمل”.
وعقب فوزه قال في خطاب النصر أمام جماهيره: “جئنا إلى احتضان الجميع وعدم إقصاء أحد”.
ولد إمام أوغلو في عام 1970 في مدينة طرابزون المطلة على البحر الأسود لأسرة محافظة لها تاريخ طويل في العمل السياسي، فوالده مؤسس فرع حزب الوطن الأم بزعامة رئيس الوزراء التركي الراحل تورغوت أوزال.
تخرج من قسم إدارة الأعمال في جامعة إسطنبول، وحاز على ماجستير في الموارد البشرية، وأسس شركة إنشاءات عام 1992 ليشغل منصب رئيس مجلس إدارتها.
لعب كرة القدم وكرة السلة هاوياً في نادي طرابزون، ثم نادي بيليك دوزو عام 2009، وهو متزوج ولديه 3 أطفال.
ولم ينخرط في العمل السياسي حتى عام 2008 وهو عام انضمامه إلى حزب الشعب الجمهوري، بعد أن رفض حزب العدالة والتنمية الحاكم طلبه بالانتساب إليه في ذلك الحين، وبعدها بعام فقط انتزع إمام أوغلو رئاسة بلدية حي بيليك دوزو الحديث في القسم الأوروبي من إسطنبول من الحزب الحاكم.
استطاع إمام أوغلو أن يكسب ثقة الناخبين في بلديته منذ عام 2014، إذ حقق في السنوات الأخيرة نجاحاً كبيراً، وحاز منصب رئيس بلدية بيليك دوزو بنسبة 50.85% ما أعطاه أهمية سياسية كبيرة فيما بعد، كما أنه وخلال وقت قصير سلط الانتباه إلى حزبه في المنطقة نتيجة التوسع في المدينة التي حقق بها إنجازات بدأت تظهر في العام 2015، أي بعد توليه المنصب بعام واحد، وإن كانت بداية المشاريع تُحسب للعدالة والتنمية ولكنه استثمرها بشكل جيد.
واتخذ مرشح المعارضة سياسة تعتمد على التوسع الحضاري وتزيين الشوارع، وإقامة أماكن لجذب الشركات للاستثمار بها، وفق وسائل إعلام تركية.
وزار زعيم الحزب الجمهوري كليجدار أوغلو منزل حسن إمام أوغلو، والد أكرم، في طرابزون في 13 دسبمبر 2018، ومازحه بقوله: “جئنا نخطب يد ابنك” عند الإعلان رسمياً عن تسمية “أكرم” مرشحاً للحزب لرئاسة بلدية إسطنبول.
فرد عليه الأب بقوله: “لقد سبق وأن أخذت بنتاً من آغجا آبات (أحد أحياء مدينة طرابزون) ونعطيك الآن شاباً أيضاً”.
الحزب الذي لم يحكم منذ 39 عاماً
أما عن الحزب الذي احتضن إمام أوغلو فهو حزب الشعب الجمهوري، أقدم الأحزاب السياسية التركية وهو حزب من “يسار الوسط”، أسسه مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، في التاسع من سبتمبر 1923 وكان زعيمه الأول حتى وفاته عام 1938.
وبعد وفاة أتاتورك لم يكن على الساحة السياسية سوى هذا الحزب حتى عام 1946 عندما انتقلت تركيا إلى نظام الأحزاب المتعددة، وتم إجراء أول انتخابات نيابية عامة في تاريخ البلاد وفاز الحزب بالسلطة بأغلبية ساحقة، لكنه خسر انتخابات العام 1950 أمام الحزب الديمقراطي الذي كان يتزعمه عدنان مندريس، فبقي في المعارضة حتى عام 1960 عندما انتهى حكم مندريس وبدأ الحكم العسكري الذي استمر نحو 5 سنوات.
وعاد الحزب إلى السلطة مجدداً في العام 1973 عندما شارك في حكومة ائتلافية مع حزب السلامة الوطني الذي كان يتزعمه السياسي الإسلامي نجم الدين أربكان، وفي عام 1978 شكل الطرفان حكومة ائتلافية أخرى استمرت حتى انقلاب العام 1980.
وعقب الانقلاب قام القادة العسكريون بإغلاق الحزب إلى جانب الأحزاب السياسية الأخرى واعتقلوا قادتها، واستمر ذلك حتى عودة الديموقراطية عام 1992 عندما أعيد فتح الحزب بقيادة السياسي المخضرم دينيز بايكال.
في انتخابات العام 1995 حصل على نسبة 11% من الأصوات التي مكنته من إحراز 49 مقعداً في البرلمان لكن بقي خارج التشكيل الحكومي حينها، وفي انتخابات العام 1999 لم يستطع أن يتجاوز حاجز 10% الذي يسمح بدخول البرلمان حيث حصل على 8.7% فقط من الأصوات.
لكن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي وقعت في العام 2000 – 2001، أنهت هيمنة الأحزاب التركية التي كانت على الساحة حينها، فعاد نجم الحزب الجمهوري إلى الصعود وترافق ذلك أيضاً مع بزوغ نجم حزب العدالة الحاكم لتركيا منذ العام 2002.
بقي حزب الشعب في قيادة المعارضة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية البلاد الذي قاد النهضة في البلاد منفرداً منذ 17 عاماً ولا يزال، لكن صعود إمام أوغلو أعاد الأمل بالعودة للسلطة لأنصار هذا الحزب الذي لم يشارك في أي حكومة أو يتولى بلدية إسطنبول منذ العام 1980.
اضف تعليقا