كشف تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2024 عن استمرار تفشي الفساد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأشار التقرير إلى أن الفساد السياسي والمالي والإداري أصبح سمة بارزة في الحكومات العربية، حيث يتم إهدار الموارد العامة لصالح النخب الحاكمة، دون أي آليات حقيقية للمساءلة. كما أن الرؤساء والمسؤولين في العديد من الدول العربية يستغلون ثغرات القوانين وضعف الأجهزة الرقابية للحفاظ على مصالحهم، مما يؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار السياسي.
يرتبط تفشي الفساد في الدول العربية ارتباطًا وثيقًا بتدهور الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان. فكلما زاد الفساد السياسي، كلما أُحكمت قبضة الأنظمة الاستبدادية على السلطة، مما يعيق أي تقدم نحو الإصلاحات الديمقراطية أو تحقيق الوعود التي حملتها ثورات الربيع العربي.
ضعف الإعلام.. غياب الشفافية في كشف الفساد
يلعب الإعلام المستقل دورًا محوريًا في فضح الفساد، لكن الدول العربية تعاني من غياب وسائل إعلام نزيهة وشفافة، حيث يتم تقييد الصحافة المستقلة وحجب المعلومات، ما يترك المواطنين دون أدوات حقيقية لمعرفة كيف تُدار أموال الدولة.
يقول الصحفي سامي الشرفا، المهتم بقضايا الفساد:
“أي سلطة لا تُراقب تُفسد. في العالم العربي، يتم إسكات الإعلام الجاد، بينما يُسمح فقط بوسائل الإعلام الحكومية التي تروج لإنجازات وهمية.”
الحروب والنفقات الدفاعية.. مدخل آخر للفساد
تُعَدّ الحروب والصراعات المستمرة في المنطقة من العوامل الرئيسية التي تسهم في تفشي الفساد. تؤدي هذه النزاعات إلى زيادة النفقات الدفاعية وتأثير الجيش على عمليات صنع القرار السياسي، مما يقوض القطاع الخاص ويعزز الفساد في المؤسسات الحكومية.
تصدرت خمس دول عربية قائمة الأسوأ عالميًا في مؤشر الفساد، حيث جاءت كل من الصومال، وسوريا، واليمن، وليبيا، والسودان ضمن الدول العشر الأخيرة عالميًا، ما يعكس حجم الانهيار المؤسسي في هذه الدول التي تعاني من الصراعات الداخلية، وضعف سلطة القانون، وانهيار أنظمة المحاسبة والشفافية.
يقول الخبير الاقتصادي مايكل هادسون:
“الفساد في الدول التي تعاني من النزاعات مثل سوريا واليمن وليبيا والصومال ليس مجرد مشكلة مالية، بل هو السبب الرئيسي في استمرار الفوضى، حيث تتلاعب الميليشيات والجماعات المسلحة بالموارد الاقتصادية لصالحها، بينما يدفع المواطن العادي الثمن.”
الفساد في السعودية: مكافحة شكلية وبذخ غير مبرر
على الرغم من حصول السعودية على 59 نقطة في المؤشر، إلا أن التقارير الدولية تسلط الضوء على استمرار الفساد في المؤسسات الحكومية والقضائية. ورغم إطلاق ولي العهد محمد بن سلمان حملات لمكافحة الفساد، إلا أن هذه الحملة لم تكن سوى وسيلة لتعزيز سلطته السياسية، حيث طالت أمراء ورجال أعمال بارزين دون محاسبة فعلية للمؤسسات الكبرى المتورطة في الفساد المالي والإداري.
في الوقت الذي يدّعي فيه ابن سلمان محاربة الفساد، ينفق مليارات الدولارات على حفلات ترفيهية، وشراء ممتلكات فاخرة ولوحات فنية حيث كشفت بعض الصحف الأمريكية عن شراء ولي العهد، لوحة ليوناردو دافنشي “سالفاتور موندي” (مخلِّص العالم – المسيح) بقيمة 450.03 مليون دولار وكشفت صحيفة “نيويورك تايمز” مؤخرًا عن شراء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، قصرًا فارهًا في فرنسا مقابل 300 مليون دولار، بينما تعاني المملكة من أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى مضاعفة ضريبة القيمة المضافة، مما زاد من الأعباء المالية على المواطنين.
كارثة سيول جدة كانت أحد الأمثلة الواضحة على سوء الإدارة والفساد في البنية التحتية، حيث كشفت التحقيقات عن تورط مسؤولين حكوميين في تحويل أموال المشاريع إلى حسابات شخصية، مما أدى إلى إهمال تطوير أنظمة تصريف المياه ووقوع أضرار كارثية عند هطول الأمطار الغزيرة.
تونس: القضاء على الفساد أم القضاء على الهيئات الرقابية؟
تراجعت تونس في مؤشر الفساد لعام 2024، حيث حصلت على 39 نقطة فقط، بسبب تآكل مؤسسات مكافحة الفساد. فمنذ عام 2021، أغلقت السلطات مقر هيئة مكافحة الفساد دون أي مبرر قانوني، كما تم تجميد العمل بالقانون الأساسي لحماية المبلغين عن الفساد، مما جعل الفساد يزدهر في ظل غياب الرقابة المستقلة.
حذرت جمعيات مدنية منذ عام 2023 من استغلال بعض المسؤولين لمناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية، مستفيدين من غياب آليات المراقبة الدورية لمكاسب نحو 300 ألف مسؤول ملزمين بالتصريح عن ممتلكاتهم بموجب قانون صدر عام 2018.
بحسب تقديرات هيئة مكافحة الفساد، فإن الفساد يكلف تونس حوالي 3 مليارات دولار سنويًا، وهو مبلغ ضخم يزيد من الضغوط الاقتصادية، حيث تواجه البلاد أزمة معيشية متفاقمة بسبب ارتفاع الأسعار وتراجع الاستثمار الأجنبي.
مصر: الفساد يتحكم في الاقتصاد والسياسة
تراجعت مصر في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024، حيث حصلت على 30 نقطة، مقارنة بـ35 نقطة في العام السابق. يُعزى هذا التراجع إلى استمرار الفساد السياسي والمالي والقضائي، وارتفاع الأسعار، وزيادة الاعتقالات.
الفساد السياسي لا يقتصر على سرقة الأموال العامة فقط، بل يمتد ليشمل تعطيل المؤسسات الرقابية والقضائية، واستغلال الأجهزة الأمنية لحماية النخب الحاكمة بدلاً من حماية المواطنين. في مصر، على سبيل المثال، أدى تداخل المال بالسياسة إلى قمع الحريات العامة، والتعامل الأمني العنيف مع أي تحركات شعبية، حيث تستخدم الدولة القوة المفرطة ضد المحتجين، وتواصل اعتقال الصحفيين والمعارضين السياسيين، بينما يتم حجب مواقع الإنترنت ومنصات حرية التعبير لمنع أي محاولة لكشف الفساد أو المطالبة بالإصلاح.
التقرير أشار إلى أن إسناد المناقصات بالأمر المباشر لشركات محلية ودولية دون إجراء مزادات شفافة أدى إلى إهدار مليارات الدولارات، بينما تسيطر الأجهزة الأمنية والجيش على مفاصل الاقتصاد، مما أدى إلى إضعاف القطاع الخاص وتراجع ثقة المستثمرين الأجانب.
يقول المحلل الاقتصادي أندرو ميلر:
“غياب الشفافية في إنفاق القروض والمساعدات الدولية، وهيمنة الأجهزة الأمنية على الاقتصاد، جعل مصر واحدة من أكثر الدول فسادًا في المنطقة، حيث باتت الرشوة والفساد الإداري سمة دائمة في المؤسسات الحكومية.”
وزارة التموين والتجارة الداخلية كانت محور قضية فساد كبرى، حيث تم الكشف عن تشكيلات إجرامية داخل الوزارة متورطة في التلاعب بالسلع الأساسية واحتكارها، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وإثقال كاهل المواطنين المصريين.
الحل.. هل هناك أمل؟
يشير التقرير إلى أن استمرار الفساد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يرجع إلى غياب الإرادة السياسية لدى الأنظمة الحاكمة، واستمرار نهج الاستبعاد والاستبداد بالحكم.
لم يعد الفساد مجرد قضية مالية أو إدارية، بل أصبح أداة لترسيخ الديكتاتورية، وقمع الحريات، وضمان بقاء الأنظمة القمعية في السلطة دون أي مساءلة. وبالتالي، فإن أي حديث عن الإصلاح أو مكافحة الفساد يظل بلا معنى ما لم يكن هناك التزام حقيقي بسيادة القانون، وحرية الصحافة، واستقلال القضاء، وضمان الحق في التعبير والتجمع السلمي.
يشدد التقرير على ضرورة تعزيز دولة القانون والمواطنة، وإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتبني آليات جديدة لمكافحة الفساد، وتوفير الإرادة السياسية اللازمة لتحقيق هذه الأهداف.
لكن يبقى السؤال: هل تمتلك الأنظمة العربية الشجاعة السياسية لإجراء هذه الإصلاحات، أم أن الفساد سيبقى القاعدة التي تُحكم بها المنطقة؟
اضف تعليقا