في مارس/آذار 2015، وبعد تعيينه وزيراً للدفاع من قبل والده الملك سلمان، على الرغم من عدم حصوله على تدريب عسكري سابق، قام الأمير محمد بن سلمان -ولي العهد الحالي- بعقد اجتماع لكبار الجنرالات العسكريين في المملكة في وزارة الدفاع السعودية لمناقشة عدة أمور تتعلق بأمن المملكة، على رأسها الأوضاع في اليمن -المجاورة- حيث التوسع الحوثي المدعوم من إيران -عدو المملكة اللدود.
لم يكن الجنرالات والقادة العسكريين يتوقعون أن يسفر الاجتماع عما أسفر عنه، حيث فاجئ بن سلمان الحضور بإصدار أمر “بإرسال طائرات F-15” لليمن بدلاً من أن يلتزم بكتيب قواعد اللعبة المتبع منذ عقود وينتظر تدخل الولايات المتحدة الأمريكية.
أدت المقامرة الجريئة عالية المخاطر التي قام بها الملك الشاب إلى نتائج عكسية، ولعل ذلك يعود إلى مستوى القوات المسلحة السعودية المتدني، على الرغم من امتلاكها أسلحة عالية التقنية.
لم يستطع العسكريون السعوديون التعامل مع أجواء المعركة في اليمن، حيث فشلت أجهزة الراديو الأرضية في العمل، لذلك اضطر الطيارون السعوديون إلى الطيران على ارتفاع منخفض بما يكفي لاستخدام هواتفهم المحمولة للتواصل مع مركز التحكم.
بالطبع قلة الكفاءة تسببت لمحمد بن سلمان -الذي اتخذ قراراً متسرعاً منذ البداية- في حرج شديد، حيث كان قد أكد لوالده والمسؤولين الأمريكيين أن عملية اليمن ستنتهي في غضون شهرين، إلا أنه وبعد خمس سنوات لا زالت الحملة الجوية بقيادة السعودية مستمرة، مع خسائر فادحة، حيث قتلت الغارات الجوية آلاف المدنيين، وتسببت في خلق أكبر كارثة إنسانية في العالم.
جرائم محمد بن سلمان في اليمن كانت كارثية، وضعته ووضعت المملكة في مأزق محلي ودولي، على الصعيد المحلي استنزفت هذه الحرب الاقتصاد السعودي بصورة كبيرة، وعلى المستوى الدولي تسببت في تشويه سمعة المملكة المشوهة بالفعل بفضل ممارسات محمد بن سلمان القمعية وانتهاكاته ضد حقوق الإنسان.
الكاتبان “برادلي هوب” و “جوستين شيك” أصدرا كتاباً بعنوان “النفط والدم”، تناولا خلاله تأثير محمد بن سلمان الكارثي على الوضع في اليمن، وكذلك “صعوده الصاروخي” إلى العرش وسعيه الدؤوب إلى المال والسلطة.
من خلال الكتاب، يقدم المؤلفان -برادلي هوب وجوستين شيك، وكلاهما مراسلين في صحيفة وول ستريت جورنال – صورة حية عن مؤامرات الغدر التي أحيكت داخل الديوان الملكي السعودي التي أدت إلى تمكين بن سلمان من الاستيلاء على السلطة، كما حاول الكتاب الكشف عن الأسباب التي قد تدفع بعض أفراد العائلة المالكة الشباب إلى اتخاذ القرارات المتهورة التي بالطبع لا تؤدي إلا إلى التهلكة.
باستخدام مهاراتهم الصحفية والسردية في إعداد التقارير، استخلص المؤلفان المعلومات من المستندات الحكومية السرية، والإيداعات المالية، ومساعي ولي العهد التجارية غير الناجحة “إلى حد كبير”، هذا بالإضافة إلى إجراء مقابلات مع أشخاص تعاملوا بصورة شخصية مع ولي العهد، شريطة عدم الكشف عن أسمائهم، ببساطة لأنهم خائفون من عواقب التحدث بصراحة عنه، وهي العواقب التي يمكن استنتاجها بسهولة بعد قراءة أحداث كتاب “الدم والنفط: قصة صعود محمد بن سلمان للسلطة بلا رحمة”.
من خلال الكتاب، الذي يُعد تحقيقاً مطولاً عن رحلة صعود بن سلمان إلى السلطة وسعيه “بصورة قمعية” للسيطرة على كل شيء، تناول الكاتبان مراحل تطور بن سلمان، من طفل غير متزن، حيث كان يعاني من زيادة الوزن، إلى شاب يزداد قسوة مع ازدياد رغبته في الوصول إلى العرش، خاصة بعد تولي والده “سلمان” حكم المملكة، حيث بن سلمان في الإطاحة بأفراد العائلة المالكة أو حبسهم، بما في ذلك ولي العهد آنذاك، محمد بن نايف، وفي غضون فترة قصيرة للغاية، جمع محمد بن سلمان – الذي لم يكن قد بلغ الثلاثين بعد – قوة هائلة، وأصبح مسؤولًا بشكل فعال عن الدفاع والاقتصاد، ثم ترأس شركة أرامكو، إحدى أكبر الشركات في العالم من حيث الإنتاج والأرباح.
وصلت الأمور إلى ذروتها في عام 2017، حيث تحدى الملك سلمان التقاليد وأجرى تغييرات في التسلسل الهرمي وجعل محمد بن سلمان، ابنه المفضل، وليًا للعهد بدلاً من الأمير محمد بن نايف.
الأسباب وراء اختيار الملك سلمان لنجله محمد لهذا المنصب ليست واضحة، ربما استطاع إقناعه بخطته لتطوير المستقبل المسماة “رؤية 2030″، والتي تدور حول تنويع اقتصاد المملكة، وتنطوي على “فطام” سكانها مما يسميه “اعتمادها على النفط” والسماح بمجتمع أكثر انفتاحاً على العالم من حيث الاقتصاد أو الثقافة.
استقطب محمد بن سلمان مستشارين غربيين باهظي الثمن، ودفع لشركة ماكينزي ومجموعة بوسطن الاستشارية عشرات الملايين من الدولارات مقابل ثروة من المخططات وبعض الاقتراحات الجيدة، بما في ذلك رفع الحظر عن “قيادة المرأة للسيارات” والسماح لها بذلك في النهاية.
“رؤية 2030” وحديث بن سلمان الدائم عن الإصلاح والتحديث ساعده كثيراً في البداية على تلميع سمعة سمعته باعتباره مصلحاً ومجدداً، يحاول الخروج ببلده من نفق العصور البائدة المظلم إلى انفتاح القرن الواحد والعشرين، وعليه رحب كتاب الأعمدة البارزون وكبار السياسيون الغربيون بابن سلمان، وعلى رأسهم الرئيس ترامب، الذي فرد له الكتاب مساحة خاصة للحديث عن علاقته بمحمد بن سلمان ودعمه اللامتناهي له، وعدم صدور أي دعوات لضبط النفس من قبل البيت الأبيض، وكذلك تجاهل الرئيس ترامب “نتائج” تحقيقات وكالات المخابرات الأمريكية بأن محمد بن سلمان كان له يد في مقتل خاشقجي، قائلاً “إن المملكة شريك تجاري مهم”.
يحتوي الكتاب على روايات “مسلية” عن فوضى البيت الأبيض أثناء تنظيم زيارة ترامب للسعودية بعد فترة وجيزة من توليه منصبه، وتبع تلك الزيارة، تحديداً في أكتوبر/تشرين الأول 2017، مؤتمر استثماري لامع أطلق عليه اسم دافوس في الصحراء في محاولة للإعلان عن أن “محمد بن سلمان قد وصل”، وقد حضر ذلك المؤتمر الذي أُقيم في الرياض مصرفيون دوليون وأباطرة الترفيه ورجال الأعمال.
ولكن كما يكشف الكتاب، تحت قشرة المصلح يوجد قلب المستبد، بعد أيام قليلة من مؤتمر دافوس الصحراء، بدأ محمد بن سلمان في اعتقال المئات من الأثرياء السعوديين- رجال الأعمال الأقوياء وكبار أفراد العائلة المالكة والشخصيات الدينية، الذين ادعى أنهم كسبوا أموالهم بشكل غير قانوني، وبحسب الكاتبان، أراد محمد بن سلمان الاستحواذ على أموال هؤلاء الأثرياء بهذه الطريقة، حيث اشترط عليهم لإطلاق سراحهم أن يقوموا بالتنازل عن أصولهم وأموالهم، وهي طريقة استطاع بها الاستحواذ على عشرات المليارات من الدولارات من النقد والأصول.
وأعقب ذلك تحركات أخرى “متهورة” من قبل ولي العهد، كاختطاف رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري، وفرض حصار اقتصادي وجوي على قطر؛ لأن محمد بن سلمان -بحسب الكتاب- كان يرى أن كليهما ]الحريري وقطر[ كان لطيفًا مع إيران التي يعتبرها خصماً شديد الخطورة.
وفي غضون أشهر قليلة من توليه ولاية العهد، بدأ محمد بن سلمان والمستشارون المقربون منه في تعقب المعارضين أو أي شخص ينتقده أو ينتقد نظامه، وتهديدهم، وحبسهم أو ارتكاب ما هو أسوأ بحقهم، كما حدث مع الصحفي السعودي جمال خاشقجي، والذي قُتل بصورة بشعة على يد “فرقة قتل” سعودية، أشارت الأدلة والتحقيقات أنها تابعة لولي العهد، حيث كشفت التسريبات والتسجيلات أن الفريق قام بتقطيع جثة خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، وعلى الرغم من النفي الدائم لولي العهد والنظام السعودي في التورط في مثل هذا الأمر، إلا أن الجريمة تسببت في غضب عالمي وانتقادات دولية ساهمت في تشويه صورة المملكة ومحمد بن سلمان.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن وبقوة: أين الملك سلمان من كل ما يحدث؟ لماذا لم يتدخل ويضع حداً لقرارات نجله المتهورة والمدمرة؟ خاصة وأنه وبحسب “هوب وشيك” فإن الأمير الشاب المتهور قد يقود المملكة العربية السعودية الخمسون عاماً القادمة.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اقرأ أيضًا: دويتش فيله: هل يستطيع بن سلمان تحمل تكلفة جرائمه ضد حقوق الإنسان؟
اضف تعليقا