كان الجميعُ واقفين بصدورهم العارية وأياديهم الخاوية ورؤوسهم العالية، في وجهِ الحقد الأسودِ الذي لم يروْا غيرَه منذ مجيئهم إلى هذه الدنيا؛ حيث كان كل شيءٍ حالكًا قاتمًا بوجه كل حلمٍ قائم، لا ألوان، ولا ألحان، ولا شيءَ غير الذي يُملَى على العقول، منطلقًا من رأس الحاكم أو ذيوله. كانت معضلةُ هذا الجيل هو الكُره الذي في كل شبر، وكانت ضالّتهم الحرية، وضالةُ الحرية هي الحب!
انطلقوا جميعًا وأقدامهم تضرب في الأرض فوق كل بقعةٍ دنّستها القلوبُ العكرة، وحناجرهم تهتف بسقوطِ كل قناعٍ بغيض، وأياديهم تلوّح في الهواءِ كأنها تنفضُه من غبارِ خمسين سنة. أعمارُهم تترواح بين البراعم والزهور، بين الرُّشد والشباب، بين الصوت وصداه في أذنٍ مؤنسة، بين النظرة وانعكاساتها في عيون الحاضرين. ومن أول وهلةٍ، يدرك الناظرُ في عيونهم أنّ الذي جمعهم هو البحثُ عن معنىً لم يشعروا به، وجمالٍ يفتقدونه. يدورون في كل ميدانٍ وينصبون خيامَهم بكل ساحة، وعنوانُهم الثورة على كل راكدٍ، وتحرير المفاهيم وجلب الحرية والخير والحب والحقيقة والجمال، عنوةً، ولو قاومهم الكارهون!
“أنا بحبك يا بلادي” كانت هي اللحن الحنون والحضن الدافئ لمسامع الجيلِ الجديد، راعيةً لثورتهم، ومراعيةً لها في الآن ذاته؛ فتنطلق في نبرةٍ تطيب جراحهم الغائرة على إثر سنواتِ الضياعِ، قبل نجاحهم في أن يجلبوا الحبّ ويوزعوه أصواتًا في الحناجر، وصرخاتٍ في المنابر، وأدعيةً في الصلوات، وابتساماتٍ في كل وقت ومكان، تزامنًا مع الميلاد الجديد وما بعده من حياة.
لكن بعد قليلٍ من ميلاد الحبّ، عاد البُغض بقناعٍ أسودَ ممن سبقه؛ ليعاقب “العيال” على جريمتهم بحق البلاد! نحن نكرهها وعودناها على كُرهنا؛ فـ”مَن أنتم؟” حتى تقنعوها بأن على الأرض ما يستحق التضحية والحب والمخاطرة والحياة! مَن أعطاكم الحقّ لتُعبّروا عن مشاعركم تجاه بلادكم؟ ثم تعبّروا عنها بينكم وبين بعضكم؟ مَن سمح لكم بأن تتمردوا علينا؟ على القبرِ الذي دفنّا فيه الوطن ودفنّا فيه أنفسنا! مَن الذي أعطاكم صكوك الحبّ لتوزعوها في النظرات والابتسامات والإيماءات؟ مَن أذن لكم بأن تغنّوا في الشوارع وأن تقولوا الشعرَ على المسارح؟ مَن علّمكم أن في اللغة أربعة أحرف إن رتبّتهم ونطقتهم.. سمعَت أقربُ أذنٍ إليك كلمةَ “أحبّك”؟!
شوقي؟ حافظ؟ طه؟ الرافعي؟ قيس؟ عنتر؟ روميو؟ نزار؟ جبران؟ غسان؟ مي؟ غادة؟ ليلى؟ .. مَن صوّر لكم أنّ مجموعةً كتبٍ ورسائل بين المجانين والمجنونات يمكنها أن تصبح واقعًا؟ مَن صوّر لكم الدنيا ملوّنة؟ مَن أخرجَ التلفازَ من الغرض الذي أردناه لكم من خلاله؟ نحن نريدكم أن تروْا الأشجار والبحار والجمالات والإنسانِ.. صورًا ثنائية الألوان؛ بالأبيض والأسود! فمَن الذي أزال عنكم العُصابة التي غميناكم بها؟ ومَن الذي أراكم الدنيا بالألوان يا جيلَ العار؟! إنّ السجونَ أولى بكم وأنتم أولى بها، السجون أولى بالمحبين من الكارهين، أولى بالضحايا من القتلة، أولى بمن يريدون تغيير الملامح وتلوين العلَم وغرس الورود! أولى بالربيع الذي تنشدونه من الخريف الذي رسمناه لنا.. ولكم!
لكنَّ صوْتًا مخنوقًا يأتي من بعيد، ويبدو أنّه يتكلم رغم الأقفال التي وضعوها في شفتيه، ويجيب على الأسئلة كلها بإجابةٍ واحدة؛ أنَّنا صغارٌ حالمون بأحلامٍ كبيرةٍ إلا على المؤمنين. الحبُّ كبيرٌ عليكم لأنّ الكُره أسهل، والإحسانُ كبيرٌ عليكم لأن الإساءة أسهل، والتبسّم كبيرٌ عليكم لأنّ التجهّم أسهل، لكننا وُلدنا على الفطرة التي تقول أن لا شيءَ في الدنيا أسهل من الحب والإحسان والتبسم.
تربَّيتم على أن لا تختاروا، وتصرّون على ألّا نختار، لا المصيرَ ولا الحياةَ ولا من يشتركون معنا فيهما، تصرّون على أنّنا لا نفهم، ولكننا نرى أنّكم الوحيدون الذين لا تفهمون أننا الأكثر فهمًا منكم، تريدون منّا أن نرى الصورَ من خلالِ نظاراتكم اللاتي على عيونكم من ثلاثين عامًا وأكثر، بالرغم مِن أنّ الصور بعيوننا الشابة أزهى في الألوان وأوضح في الملامح.
نعم إننا المجرمون الصغار، وذاك الجيلُ المتعجرف، ونتفق معكم في قولكم: ” إن هذا الجيل مجرم.. وجريمةُ هذا الجيلِ الحُبّ”، بالحبّ ثاروا، وبالحب هدؤوا بعد ثورتهم، وبالحب اختاروا، وبالحب سكنوا بعد خيرتهم، وبالحب صبروا، وبالحب نالوا بعد صبرهم، وبالحبّ عرفوا كيف يُفشون الجمال بينهم، وكيف يلقون علينا السلام، ولكننا – نحن الكبار- لم نعرف يومًا.. كيف نرد التحية بأحسن منها، ولا كيفَ نرد على الصغار السلام! فأعلنّا عليهم الحرب.. لأنهم صغارٌ مجرمون، وجيلٌ متعجرف مجرم، وجريمة هذا الجيل.. الحُبَ!
اضف تعليقا