انقسمَ العراقيون حوله. فريقٌ يعتبرهُ “شيخ المقاومة”، وآخرُ ينظر إليه كـ“متطرف”. كان أول مَن دعا إلى رفع السلاح ضد القوات الأمريكية بعد احتلال العراق في العام 2003، واعتَبرَ أن كلَّ مَن يُعين الإحتلالَ يعدُّ من المحتلين، دعا العراقيين إلى الوحدة في وجه مخططات التقسيم والطائفية، وحرَّم المشاركة في الإنتخابات أو الإنضمام للأجهزة الأمنية العراقية بعد الإحتلال، فنفاه الأمريكيون إلى خارج العراق، حتى مات غريبًا في مدينة اسطنبول التركية. إنه الشيخ حارث الضاري.

فلمَ انقسم العراقيون حوله؟ وما علاقته بالمقاومة المسلحة ضد القوات الأمريكية؟ ولماذا اتهمه بعض سنة العراق بالتسبب في نكسة كبيرة لهم ؟ 

المولد والنشأة

وُلد حارث سليمان الضاري عام 1941 بمنطقة “خان ضاري” في قضاء أبو غريب بضواحي العاصمة بغداد. وينتمي إلى واحدة من كبرى عشائر العراق، وهي عشائر زوبع، المنتمية إلى قبائل شمر الطائية العربية العريقة، والتي لعبت دورًا بارزًا في مقاومة الاحتلال البريطاني للعراق في العشرينيات من القرن الماضي.

سليمان الضاري والد “الشيخ حارث” كانت تربطه بعلماء العراق علاقات وثيقة، حملتهُ على انتداب ابنيه (مُطلق) و (حارث) لدراسة العلوم الشرعية، ثم ابتعثهما الى المدرسة الدينية الأقرب على مضارب عشيرة “زوبع” وهي مدرسة “الآصفية” الدينية في الجامع الكبير بمدينة الفلوجة، المعروفة بـ”مدرسة الشيخ عبد العزيز” نسبةً الى الشيخ “عبد العزيز السّالم السامرائي”، مؤسِّسها ومدرِّسها الأول، وصاحب الفضل الكبير على العِلم وطلبته في الفلوجة والمناطق المحيطة بها.

وفي عام 1963 التحق الشيخ حارث الضاري بجامعة الأزهر وحصل منها على شهادة البكالوريوس في كلية أصول الدين والحديث والتفسير، ثم تابعَ تعليمه العالي وحصل على شهادة الماجستير في التفسير عام (1969) ، وبعدها سجَّل في شعبة الحديث، فأخذ منها أيضًا شهادة الماجستير في عام (1971). ثم حصل على الدكتوراه في الحديث عام 1978 ليعود إلى العراق، حيث عمل مفتشًا في وزارة الأوقاف، ثم بعد ذلك نُقل إلى جامعة بغداد بوظيفة مُعيد، فمدرس، فأستاذ مساعد، فأستاذ.

قضى الدكتور حارث الضاري في التعليم الجامعي أكثر من 32 عامًا، ثم تقاعد بعد عمله في عدة جامعات عربية، كجامعة اليرموك في الأردن، وجامعة عجمان في الإمارات، وكلية الدراسات الإسلامية والعربية في دبي، وألّف عددًا من الكتب، أهمها (الإمام الزَهري وأثره في السُنّة) و (القرآن الكريم، تلاوته ومعانيه) و (محاضرات في علوم الحديث)، والذي كان كتابًا منهجيًا في الكليات والمعاهد الإسلامية بالعراق.

ولديه أيضًا بحوث ودراسات عديدة في موضوعات الحديث وعلومه، والتفسير وعلومه، والأديان، وحقوق الإنسان، والثقافة الإسلامية العامة، وهي “علم الجَرح والتعديل”، والإسناد عند المحدثين، والتعارض والترجيح في الحديث، والإدراج في الحديث… وغيرها.

السياسة والمقاومة

بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في عام 2003، على يد القوات الأمريكية وحلفائها، عاد الشيخ حارث الضاري إلى بغداد في الأول من يوليو/تموز من نفس العام، ليكون من أكبر المُناهضين للاحتلال، ولطريقة الحكم الحالية في العراق. 

تفرَّغ الضاري لإدارة “هيئة علماء المسلمين”، وهي هيئة إسلامية نشأت بعد احتلال البلاد بأقل من أسبوع، وترأسها الضاري حتى وفاته. كان من بين مهامها تسيير الشؤون الدينية كتلك التي ترتبط بإدارة المساجد ورعايتها، والمساعدة في دفن الشهداء ورعاية الجرحى، قبل أن تهتم أيضًا بمواكبة الأوضاع الناشئة عن الإحتلال، ليشكِّل الهمّ السياسي جزءًا أساسيًا من اهتمام الهيئة وبياناتها بما يخص التطورات والصراعات السياسية على الساحة العراقية.

وتُعرِّف الهيئة نفسها بأنها “كيان يضم مجموعة من العلماء المتخصصين بالشريعة، يحملون مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلامية، يعاونهم في ذلك المسلمون من أهل الاختصاص في العلوم الأخرى، ويؤازرهم عامة المسلمين في النشاط العلمي”.

ومن أبرز مؤسسيها: الشيخ حارث الضاري، والشيخ أحمد حسن الطه، والدكتور محمد عبيد الكبيسي، والشيخ الدكتور بشار الفيضي، والشيخ عبد السلام الكبيسي، والشيخ إسماعيل البدري، والشيخ عدنان العاني، والشيخ فهمي القزاز.

كان للهيئة 26 فرعًا داخل العراق، وأُوقف العمل بكثير منها لأسباب أمنية. كما أشرفت الهيئة على أكثر من 40 مدرسة دينيَّة في عموم العراق، إشرافًا كاملاً أو جزئيًا، وفي البيان الأول لها في يوليو/تموز 2003 شنت الهيئة هجومًا على نظام المحاصصة الطائفية الذي اتُّبع في العراق، ورفضت بشدة قرار جعْل يوم سقوط بغداد واحتلال البلاد يومَ “عيدٍ وطنيّ”. ولم تعترف الهيئة يومًا بشرعية العملية السياسية بعد الاحتلال، وهو ما جعل الآخرين يصنّفونها على أنها اللسان الناطق باسم المقاومة العراقية.

وتكريسًا للموقف الرافض للإحتلال؛ حرَّم حارث الضاري – الذي برز كزعيم ديني لسُنَّة العراق – المشاركة في الإنتخابات أو الإنضمام للأجهزة الأمنية بمختلف صنوفها وتشكيلاتها. كان الضاري يريد مقاطعةً كاملةً شاملةً للعملية السياسية، فقد كان يعتقد أن أيَّ مشاركةٍ في ظلِّ وجود الإحتلال تُعطيه شرعية. 

وترتّب على هذا الموقف: عدم مشاركة العرب السنّة في عملية صياغة الدستور، وعليه لم يكن لهم رأي يُذكر في القانون الأهم والأعلى في العراق الجديد. وعلاوة على ذلك، لم يشارك السُنّة، في عام 2005، في دورتين انتخابيتين، إحداهما برلمانية والثانية للتصديق على الدستور. ففي محافظة الأنبار ذات الأغلبية السنّية بلغت نسبة إقبال الناخبين 2% فقط.

ترسيخ المقاومة 

حارث الضاري الذي كان أول من دعا إلى بدء مقاومة القوات الأمريكية عسكرياً باعتبارها محتلة لم تجلب للعراقيين سوى انعدام الأمن والاستقرار، تمسَّك بموقفه الذي يرى أن حل العراق النهائي هو التخلص من الإحتلال ومن السياسيين الذين نصّبهم بعد قدومه، وهو ما شكَّل له حضورًا فاعلاً على الساحة العراقية والعربية.

نُسب إلى حارث الضاري، دعمه لفصائل ذات طابع إسلامي، أبرزها “كتائب ثورة العشرين” التي دخلت في مواجهات عنيفة مع القوات الأمريكية، خلال سنوات الاحتلال، علماً أن الضاري لم يتبنَّ هذا الفصيل المسلح بشكل رسمي، كما لم ينفِ ذلك

استمر نشاط حارث الضاري داخل العراق حتى عام 2006، إذ اتهمته قوات الاحتلال الأمريكي بدعم فصائل المقاومة العراقية المسلحة، وأصدر الحاكم المدني الأمريكي للعراق آنذاك، بول بريمر، أمرًا بملاحقته بتهمة دعم الإرهاب، فتمّ اقتحام منزله في قضاء أبو غريب غربي العاصمة بغداد، ومن ثم جرى اقتحام مقر هيئة علماء المسلمين في بغداد، فاضطر الضاري إلى مغادرة العراق، وبقيَ متنقلاً بين الأردن ومصر، ومن هناك واصل نشاطاته.

ونتيجة لمواقفه الرافضة للاحتلال، ودعواته المتكررة لحمل السلاح ضد القوات الأمريكية وحلفائها، نالَ ثقة بعض الفصائل المسلحة التي كانت في مواجهةٍ مع قوات الإحتلال، فخوّلته ليتحدث باسمها ويتفاوض نيابةً عنها.

وبالرغم من انسحاب قوات الإحتلال الأمريكي من الأراضي العراقية في عام 2011  إلا أن حارث الضاري واصل من منفاه معارضته لنظام الحكم القائم في بغداد، فقد كان يراه نظامًا طائفيًا فاسدًا من مخلفات الاحتلال. وفي أبريل/نيسان 2012 دعا الضاري الشعب العراقي إلى القيام بثورة شعبية سلمية ضد حكومة نوري المالكي لإسقاطها، ووصف حينها رئيسَ الوزراء بأنه رجل استبدادي ومغرور، ويسعى إلى إنشاء دولة الحزب الواحد، والشخص الواحد، مثلما هو الحال في إيران، كما انتقد سياسات رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، متهمًا إياه بأنه سبب استفحال الفساد المالي وارتفاع نسبة البطالة في صفوف العراقيين، وتدني مستوى عيشهم، واكتظاظ السجون بالنزلاء، إضافة إلى الاعتقالات العشوائية والإعدامات والتهجير.

ظلَّ الشيخ حارث متمسِّكًا بمواقفه حتى وصل إلى محطته الأخيرة في هذه الحياة في مارس من عام 2015 حينما أعلنت هيئة علماء المسلمين وفاة أمينها العام، حارث الضاري، في أحد مستشفيات إسطنبول بتركيا، عن عُمرٍ ناهز 73 عامًا إثر مرض عضال ألمَّ به. ونُقل جثمانه إلى الأردن، وهناك شُيِّعَ إلى مقبرة “سحاب الإسلامية” شرقي العاصمة عمّان. لتُطوى  بذلك صفحة رجُلٍ اُثير الكثير من الجدل حول شخصهِ ومشروعه.