العدسة: محمد العربي

لم تكن المرة الأولى التي يتزايد فيها الحديث عن التطبيع بين السودان وإسرائيل، كما أنها ليست المرة الأولى التي تنفي فيها الحكومة السودانية مثل هذه الخطوة، وهي ليست المرة الأولى كذلك التي يخضع الموضوع فيها لكثير القراءات والتحليلات، ولكنها المرة الأولى التي يكون الحديث فيها عن التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب، مصحوبا بتطورات مختلفة على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي، تمثل في تزايد الحديث عن صفقة القرن التي يتبناها الرئيس الأمريكي ترامب، بالإضافة إلى الخطوات الأمريكية السودانية نحو عودة العلاقات بين الغريمتين.

وما يساعد على أن حديث التطبيع هذه المرة مختلفا، هو انتهاء تل أبيب من تطبيع علاقاتها بتشاد، جارة السودان الملاصقة، التي تأتي ضمن هرولة عربية خليجية متسارعة تجاه تل أبيب.

وما سبق يدعو لعديد من التساؤلات عن حقيقة ما يجري في الساحات المعلنة، أو من خلال القنوات التحتية، ولماذا تمثل الخرطوم محطة هامة لتل أبيب، وهل بالفعل الخرطوم بحاجة لهذه الخطوة أم أن أوضاعه الاقتصادية لم تصل به حتى الآن للتسليم التام للإملاءات والشروط الأمريكية لمنح اقتصادهم قبلة الحياة.

تأكيد إسرائيلي:

الإعلام الإسرائيلي هذه المرة كان المتصدر للنشر بشكل جزم فيه بأن تطبيع العلاقات مع الخرطوم، بات قريبا ومهما، ووفق تقارير تناولت ما أعلنته شركة الأخبار الإسرائيلية (القناة الثانية سابقًا)، وصحيفة هاآرتس وهيئة البث الإذاعي تعليقا على زيارة الرئيس التشادي لتل أبيب وتدشين العلاقات بين بلاده وبين إسرائيل، فإن السودان بات هو المحطة المقبلة التي يسعي إليها نتنياهو من أجل فتح الأجواء السودانية أمام شركات الطيران الإسرائيلية، وعلى وجه الخصوص رحلات الطيران القادمة والمغادرة من البلاد إلى البرازيل.

وطبقا للتلفزيون الرسمي الإسرائيلي (كان)، فإن نتنياهو سوف يزور دولة عربية أفريقية مسلمة، ورغم أنه لم يسمها إلا أن كل المواصفات تنطبق على السودان، التي ستكون محطته المقبلة.

وبالرجوع لتقارير الإعلام الإسرائيلي، فإن مسؤولين إسرائيليين زاروا بالفعل، وبصورة غير معلنة، هذه الدولة العربية الإفريقية المسلمة، وأشار إلى أن الدولة المذكورة لا تجمعها علاقات دبلوماسية علنية مع إسرائيل، وأن الزيارة تأتي في سياق استئناف الحملة التي بدأها نتنياهو في زيارته، مؤخرًا، لسلطنة عُمان.

كما كشف رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، مئير بن شبات، بأنه أجرى خلال الفترة الماضية زيارات مختلفة لدول عربية وإسلامية، في سياق محاولة نتنياهو إلى التقارب مع “دول عربية معتدلة”.

ونقل “كان” عن سفير إسرائيل الدائم في الأمم المتحدة، داني دانون، أن نتنياهو عقد اجتماعات سرية مع العديد من رؤساء الدول الأخرى، وستحدث قريبًا المزيد من التطورات.

أضاف أنه بصفته سفيرًا لدى الأمم المتحدة، فإنه يتصل أيضًا بممثلي البلدان التي ليس لها علاقات رسمية مع إسرائيل، وأشار إلى أن بعضهم امتنع عن التصويت ضد إسرائيل في القرارات التي تتعلق بالقضية الفلسطينية في مؤسسات الأمم المتحدة.

لم ولن يحدث:

ويرى المتابعون أن الرد الرسمي السوداني وإن جاء متأخرا بعض الشيء إلا أنه كان متوقعا بنفي هذه الزيارة، وطبقا لوزير الإعلام السوداني بشارة جمعة فإن العداء مع إسرائيل “باق إلى قيام الساعة”.

وقد استغل جمعة مشاركته في مؤتمر حول مكافحة المخدرات يعقد بالخرطوم، للرد على المزاعم الاسرائيلية، مؤكدا  أن “العداء بين السودان وإسرائيل فكريا ودينيا مستمر إلى أن تقوم الساعة”.

كما نفي رئيس القطاع السياسي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم عبد الرحمن الخضر وجود أي توجه للتطبيع مع إسرائيل، مؤكدا أن حزبه لم يناقش الأمر في أي من مستوياته، مستبعدا وجود أي حديث حول هذا الأمر في الغرف المغلقة، باعتبار أن الحزب هو المحرك الأساسي للحكومة السودانية، مؤكدا في الوقت نفسه بأن موقف حزبه من الاحتلال الإسرائيلي قديم وثابت، وهو موقف مؤيد ومساند للقضية الفلسطينية، ورافض للتطبيع مع إسرائيل، تحت أي مسميات.

لماذا الآن ؟!

ويشير المراقبون إلى أن نتنياهو يسعى من خلال تسريب هذه المعلومات لخلق واقع جديد بأن حكومته استطاعت كسر الحصار الذي كان يحيط بها، وأن حكومته استطاعت تنفيذ ما فشلت فيه غيرها من الحكومات سواء المتشددة أو غيرها، عبر عشرات السنوات، بأن تحظى إسرائيل بعلاقات دافئة مع جيرانها ومحيطها الإقليمي، والأهم من ذلك، أن هذه العلاقات التي تدعم المصالح الإسرائيلية، جاءت دون أي مقابل كان يجب على إسرائيل دفعه سواء للفلسطينيين أو لغيرهم من الدول التي كان معها عداء.

وحسب المتابعون فإنه لا يمكن قبول التفسير العربي في الهرولة نحو إسرائيل بأنهم مجبرون على ذلك بسبب صفقة القرن، خاصة وأن هناك عوامل أخرى يجب أخذها في الحسبان في مسألة التطبيع العربي، منها حالة الصراع والعداء التي تشهدها المنطقة، وما أفرزته من توجه لدى بعض الدول العربية نحو إنشاء حالة تحالف مع إسرائيل من أجل تقوية موقفها في مواجهة ما تراه تهديداً لأمنها، بمعنى أن لغة المصالح قد تكون مفسرةً لمنهج التطبيع.

وتشير العديد من التحليلات المتعلقة بعودة العلاقات بين تشاد وإسرائيل مؤخرا إلى أن هناك مصالح مشتركة استغلتها إسرائيل من أجل جذب التشاديين لتل أبيب، وحسب موقع “ديبكا” المقرب من الدوائر الاستخباراتية الإسرائيلية، فإن قضية النفط الليبي تسيطر على خفايا إعادة العلاقات بين البلدين، وكذلك مشاركة “إسرائيل” في الحرب ضد تنظيمي “القاعدة” و”داعش” في أنحاء القارة الإفريقية وانضمامها إلى جهود الولايات المتحدة وفرنسا لذلك في هذه المنطقة.

ولماذا السودان؟!

وطبقا للعديد من التقارير التي تناولت أسباب الحرص الإسرائيلي على تطبيع العلاقات مع السودان رغم وجود علاقات قائمة بالفعل مع كل الدول المحيطة بسلة غذاء الوطن العربي، سواء جنوب السودان أو أوغندا وإثيوبيا وكينيا والكونغو، وقبلهم مصر وأخيرا تشاد، فإن الهدف هو اختراق بوابة العرب والمسلمين في القارة السمراء، وأن القضية ليست فقط متعلقة بتسهيل مهام الخطوط الجوية الناقلة للرحلات الذاهبة والقادمة من تل أبيب لدول أمريكا الجنوبية، وإنما كذلك لترسيخ الوجود الإسرائيلي في القارة السمراء من خلال أكثر الدول ذات الثقل والتأثير بها، مثل السودان وإثيوبيا وجنوب افريقيا ومن المفترض مصر كذلك، بالإضافة إلى توسيع دائرة الدول المناهضة لإيران، والتي تتخذها إسرائيل مبررا أساسيا في فتح خطوط إتصال مع أعدائها السابقين.

وتشير تصريحات النائبة السابقة بالبرلمان السوداني تراجي مصطفى، التي أسست منذ سنوات أول جمعية للصداقة السودانية الإسرائيلية، إلى أن زيارة نتنياهو للخرطوم غير مستبعدة على الإطلاق، في ظل وجود علاقات قائمة بالفعل بين الحزب الحاكم في الخرطوم وبين تل أبيب منذ عام 2005، والأمر فقط يحتاج إلى تطبيعها بشكل أفضل، مؤكدا أن إسرائيل هي التي عرقلت عملية التطبيع مع الخرطوم.

وطبقا لـ “باراك رافيد“، المحلل السياسي في القناة الإسرائيلية العاشرة، فإن الدفء الذي تشهده العلاقات بين إسرائيل والسودان يأتي ضمن الجهود التي تبذلها الحكومة الإسرائيلية لتحسين علاقاتها مع الدول العربية؛ بهدف إقامة تكتل إقليمي لمواجهة إيران، مؤكدا أن السودان في السنوات التي سبقت عام 2014 كانت تتمتع بعلاقات متميزة مع طهران ، وهو ما جعل العلاقات بين البلدين في مستوي متدني، إلا أنه بعد عام 2014، حدث تغير في العلاقات الإسرائيلية السودانية، بضغط من السعودية في إطار حملة الأخيرة لقطع علاقات إيران مع الدول العربية.

ويشير رافيد إلى أن بلاده لاحظت تطور العلاقات مع الخرطوم في عدة صور منها طرد الملحق الثقافي الإيراني من الخرطوم، ووقف السودانيون لعمليات تهريب الأسلحة التي كانت تتجه إلى قطاع غزة، وانضمامهم المبكر للتحالف السعودي ضد الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن.

وكشف الكاتب الإسرائيلي إلى أن المنظمات الدولية، كانت وسيلة التواصل غير المباشرة بيت تل أبيب والخرطوم، حيث استطاعت الأولى خلق لوبي إسرائيلي من أجل دعم السودان، ومطالبته الدول الغربية لمساعدة الخرطوم في تسديد الديون الدولية المستحقة عليه.

وتؤكد تقارير إعلامية أخرى فإن شركة الخطوط الجوية الكينية، تقدمت بطلب رسمي للسلطات السودانية لتسمح لها بعبور رحلاتها الجوية المتجهة إلى إسرائيل عبر مجالها الجوي.