منصور عطية

رغم أن قطاعًا لا بأس به من السعوديين رأى في استضافة البلاد لأول عرض للمصارعة الحرة بمدينة جدة، الجمعة، حدثًا تاريخيًّا، إلا أن فئة أخرى انتقدت ما احتواه من مخالفات ومشاهد لم يعتد عليها الشعب الذي كان قبل أشهر من الآن يوصف بأنه الأكثر محافظة بين الدول العربية والخليجية على وجه الخصوص.

وبعيدًا عن المفارقات التي سجلها العرض، سواء كانت في لقطات لنساء شبه عاريات، أو رفع العلم الإيراني، فإن من بين ما لفت الأنظار، غياب أي رأي أو فتوى من المراجع الدينية الرسمية المعتمدة، فيما تجاهل الجميع فتاوى سابقة حرمت المصارعة بشكل أو بآخر.

لكن هذا التوجه لا ينفصل عن النسق العام الذي بات يشوب الحياة في المملكة منذ وصول ولي العهد محمد بن سلمان لمنصبه، والذي يتفق الجميع على أنه الحاكم الفعلي للبلاد.

وشهدت السعودية في الآونة الأخيرة سلسلة قرارات تضمنت التخلي عن عدد من القوانين والأعراف الرسمية التي اعتمدتها على مدار عقود، وقضت التغييرات الجديدة بافتتاح دور للسينما، والسماح للمرأة بحضور المباريات الرياضية في الملاعب وقيادة السيارات.

تبرير عبر وسيط لـ”أعظم حدث”

“جدة” المدينة شديدة الخصوصية لدى السعوديين لقربها الشديد من الحرمين الشريفين (يفصلها 70 كيلومترًا فقط عن المسجد الحرام بمكة المكرمة)، شهدت عرضًا للمصارعة، ظهرت في شاشاته مصارِعات شبه عاريات وبملابس فاضحة!.

تلك المشاهد أزعجت كثيرًا متابعين سعوديين، أعربوا عن ضجرهم من احتواء ما أسمته الهيئة العامة للرياضة (#أعظم_رويال_رامبل) على تلك المشاهد، ما دفع هيئة الرياضة إلى تقديم اعتذار رسمي للمشاهدين.

وأكدت الهيئة في بيان نشرته عبر حسابها على “تويتر” رفضها القاطع لذلك المشهد، “في ظل التزامها باستبعاد كل ما يسيء أو يتعارض مع قيم المجتمع”.

كما أثار رفع علم إيران وسط حلبة المصارعة ردود فعل غاضبة لدى بعض السعوديين على منصات التواصل، الذين أشاروا إلى أنه في الوقت الذي يقاتل فيه السعوديون في الحد الجنوبي الحوثيين المدعومين من طهران، يرفرف علم العدو في سماء مدينتهم.

“تركي آل الشيخ” رئيس الهيئة العامة للرياضة، والشخصية الأكثر إثارة للجدل في المملكة منذ تعيينه قبل أشهر، وصف العرض بقوله: “أعظم حدث في تاريخ “WWE” (رابطة مصارعة المحترفين) هنا في السعودية”، كما غرّد عبر حسابه الرسمي: “أمنيات الكثيرين تحققت باستضافة هذا الحدث العالمي لـ”WWE”، وهذه بداية المشوار”.

ورغم كل تلك التفاصيل، إلا أن الإمام السابق للحرم المكي “عادل الكلباني” ألمح إلى جزئية غفل عنها كثيرون ممن تابعوا العرض، سواء كانوا متفقين أم مختلفين معه.

“الكلباني” غرّد عبر حسابه: “صارعَ (النبي ﷺ) ركانَةَ على شاةٍ فصرعَهُ”، الأمر الذي جرى تفسيره على أنه استدلال لإجازة عرض المصارعة من الناحية الشرعية.

ما اعتُبر تبريرًا لهذا الحدث، يأتي في ظل غياب أي رد فعل رسمي من الجهات الدينية الرسمية، مثل وزارة الشؤون الدينية، أو هيئة كبار العلماء أو غيرها، عن العرض في حد ذاته، أو بشأن ما شهده من أحداث.

المصارعة الحرة “حرام”

وكان الأمر مفاجئًا إلى حد كبير، عند البحث عن أي شيء يتعلق بالمصارعة على موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة، حيث تضمن العديد من الفتاوى التي أجمعت على تحريم المصارعة الحرة من عدة أوجه.

وبحسب ما هو منشور عبر الموقع، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي تباحث بشأن (الملاكمة والمصارعة الحرة ومصارعة الثيران)، في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408 هـ الموافق 17 أكتوبر 1987 م، إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408 هـ الموافق 21 أكتوبر 1987م.

وورد في فتوى المجمع ما نصه: “وأما المصارعة الحرة التي يستبيح فيها كل من المتصارعين إيذاء الآخر والإضرار به، فإن المجلس يرى فيها عملًا مشابهًا تمام المشابهة للملاكمة المذكورة، وإن اختلفت الصورة، لأن جميع المحاذير الشرعية التي أشير إليها في الملاكمة موجودة في المصارعة الحرة التي تجرى على طريقة المبارزة، وتأخذ حكمها في التحريم، وأما الأنواع الأخرى من المصارعة التي تمارس لمحض الرياضة البدنية ولا يستباح فيها الإيذاء، فإنها جائزة شرعًا ولا يرى المجلس مانعًا منها”.

وكانت الفتوى ذاتها قد أقرت بالإجماع أن “الملاكمة المذكورة التي أصبحت تمارس فعلًا في حلبات الرياضة والمسابقة في بلادنا اليوم هي ممارسة محرمة في الشريعة الإسلامية؛ لأنها تقوم على أساس استباحة إيذاء كل من المتغالبين للآخر إيذاء بالغًا في جسمه، قد يصل به إلى العمى، أو التلف الحاد أو المزمن في المخ، أو إلى الكسور البليغة، أو إلى الموت، دون مسؤولية على الضارب، مع فرح الجمهور المؤيد للمنتصر، والابتهاج بما حصل للآخر من الأذى، وهو عمل محرم مرفوض كليًّا وجزئيًّا في حكم الإسلام”.

وحملت الفتوى توقيع 17 شخصية من أبرز العلماء والفقهاء في العالم الإسلامي حينها، في مقدمتهم رئيس مجلس المجمع الشيخ عبدالعزيز بن باز، وعضوه الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية حاليًا، وغيرهم.

وفي فتوى أخرى نشرها الموقع ردًّا على تساؤل حمل الرقم (242) في المجلد 19 من مجموعة فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز، قُضي بأن “الملاكمة ومصارعة الثيران من المحرمات المنكرة؛ لما في الملاكمة من الأضرار الكثيرة والخطر العظيم، ولما في مصارعة الثيران من تعذيب للحيوان بغير حق، أما المصارعة الحرة التي ليس فيها خطر ولا أذى ولا كشف للعورات فلا حرج فيها”.

وليس خافيًا ما يظهر به المتصارعون والمتصارعات من لباس يخفي عورتهم المغلظة فقط بالكاد.

إنعاش ذاكرة الفتاوى

التجاهل من قبل الهيئات الدينية الرسمية في السعودية لحدث مثل عرض المصارعة الحرة وما قد يشوبه من مخالفات، لم يكن هو الأول من نوعه، فقد سبقه قبل نحو شهرين الإعلان عن أول بطولة في المملكة للعبة الورق أو “الكوتشينة” التي تسمى هناك بـ”البلوت”.

الحديث عن تحريم اللعبة من الأساس حينها لم يحظ بالمتابعة المستحقة، رغم ما هو ثابت بتحريمها في فتوى رسمية باسم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.

ففي فتوى اللجنة الدائمة رقم 4338 وتاريخ 21/1/1402هـ، الجزم بتحريم لعبة “البلوت”، ولو كانت بدون عوض (القمار)، لأنها تشغل عن ذكر الله، وتضيع الوقت بلا فائدة، وتفضي إلى الشحناء والبغضاء، وكان رئيس اللجنة في ذلك الوقت هو الشيخ عبدالعزيز بن باز.

ولعل تلك الفتاوى المتعلقة بالمرأة حازت النصيب الأكبر من الفتاوى المتضاربة الصادرة بأمر الحاكم ووفق هوى السلطان، ولعل المثال الأبرز والأكثر وضوحًا، هو قرار السماح للمرأة بقيادة السيارة، فبعد أن كانت “شرًّا”، أصبحت مثالًا لتوخي الملك لما تقرره الشريعة الإسلامية، وهو ما ذهبت إليه الهيئة في تغريدة عبر حسابها على “تويتر”، تعليقًا على قرار الملك سلمان، الهيئة غرّدت نصًّا: “حفظ الله خادم الحرمين الشريفين، الذي يتوخى مصلحة بلاده وشعبه في ضوء ما تقرره الشريعة الإسلامية”.

اللافت، أن الأمر السامي يكشف تعارض الفتوى التي استند إليها، والصادرة من الهيئة مع فتوى أخرى منشورة على الموقع الرسمي للرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء (التي يرأسها المفتي)، برقم (2932) جاء نصها كالآتي: “لا يجوز للمرأة أن تسوق السيارة في شوارع المدن ولا اختلاطها بالسائقين؛ لما في ذلك من كشف وجهها أو بعضه، وكشف شيء من ذراعيها غالبًا، وذلك من عورتها، ولأن اختلاطها بالرجال الأجانب مظنة الفتن ومثار الفساد”.

وفي 2013، شهدت السعودية حملة قادتها ناشطات دعين لقيادة المرأة للسيارة في 26 أكتوبر، الأمر الذي أسفر عن ملاحقات أمنية تعرضت لها الداعيات للحملة، وتوجيهات على جميع المستويات بتضييق الخناق على تلك الدعوات، وبعد أقل من شهر على تلك الدعوة، رأى المفتي العام للمملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، أن قرار منع المرأة من قيادة السيارة هو “حماية للمجتمع من الشر”.

وفي سبتمبر 2011، أصدر العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز أمرًا ملكيًّا يسمح للمرأة بعضوية مجلس الشورى، والترشح والانتخاب في الانتخابات البلدية، وحينها وصف مفتي المملكة عبدالعزيز آل الشيخ الأوامر بأنها “كلها خير”، قائلًا في تصريحات صحفية: “نحن في بلد الإسلام ونرجو الله أن يثبتنا على الحق ويرزقنا الاستقامة والهدى”.

غير أنه وبالبحث في موقع رئاسة البحوث العلمية والإفتاء، وُجدت فتوى معاكسة أصدرها “آل الشيخ” نفسه تحت عنوان “مشاركة المرأة في السياسة”، وكانت عبارة عن رد على تساؤل بشأن المطالبات بمشاركة المرأة في الانتخابات ودخول مجلس الشورى.

ومما قاله المفتي في فتواه نصًّا: “.. إن مثل هذه المطالبات يجب أن يعاد النظر فيها، هل هي تخدم دين الإسلام؟..”، وقال: “إن الأمر أيتها الأخوات.. استمرار لمكائد الأعداء ضد هذه الأمة، لن يألوا جهدًا في إيصال الأذى إلينا، لن يألوا جهدًا في تفريق صفنا وتشتيت كلمتنا، لن يألوا جهدًا في إيقاع الفتنة بيننا، وما يروجون له في هذه العصور المتأخرة من حقوق المرأة، كل هذا نوع من أنواع الكيد”.