منذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 وحتى اليوم، تتعرض المناطق المحيطة بالعاصمة بغداد، والمعروفة بـ”حزام بغداد”، لعملية تغيير ديموغرافي واسعة، وبوتيرة متصاعدة، بهدف إعادة رسم الخارطة السكانية والمذهبية في هذه المناطق، التي تطغى عليها الهوية السنّية، بنسبة تفوق 80%.

سبعة عشر عاما من الحملات الشعواء، على يد القوات الأمنية العراقية، والميليشيات المرتبطة عضويا وعقائديا بإيران، كانت كفيلة بإحداث تغيير كبير في التركيبة السكانية لهذه المناطق، فما أهميتها ولماذا تستميت المليشيات لتهجير سكانها، وكيف جرى تحويلها إلى مستودعات لصواريخ إيران وأسلحتها التي تهدد جيران العراق سيما البلدان الخليجية؟

حزام بغداد

المناطق المحيطة بالعاصمة بغداد، مناطق ريفية، تتميز بأهميتها الإدارية كونها تربط بين أربع محافظات، هي بغداد وصلاح الدين وديالى والأنبار، وهو ما جعلها من المناطق الحيوية في البلاد.

ويبلغ عدد سكان هذه المناطق قرابة المليون ونصف المليون نسمة، وتقطنها منذ قرون قبائل عربية أبرزها زوبع، والدليم، والقره غول، والجبور، والمشاهدة، والمجمع، والجنابيين، والعبيد، وشمر.

ويمر عبر هذه المناطق عددا من الأنهر والجداول الصغيرة والكبيرة. ويعتمد أهلها على الزراعة وتربية الحيوانات، حيث تنتشر فيها المزارع وحقول الدواجن وبحيرات الأسماك. 

وكانت تُعتبر “سلة بغداد الغذائية”، لكنها الآن لم تعد كذلك، إذ توقفت الزراعة بشكل شبه كامل فيها، بسبب الحملات الطائفية التي تعرضت لها.

المقاومة

رغم طبيعة مناطق “حزام بغداد” الساحرة، وبساتينها الخضراء، وهوائها العذب، إلا أن مشهدا آخر سيطر تماما على هذه المناطق منذ العام 2003. 

فبعد سقوط العاصمة بغداد، تحت سيطرة القوات الأمريكية وحلفائها، وإعلان سقوط نظام صدام حسين، سلكت المناطق ذات الغالبية السنية؛ ومنها “حزام بغداد”، طريق المقاومة المسلحة، ضد القوات الغازية.

الطبيعة الزراعية لحزام بغداد، أهّلها لأن تكون من أشد المناطق صراعا مع القوات الأمريكية وحلفائها، وأكثرها تنكيلا بالجنود المحتلين.

وبالفعل، ظلّت الهجمات المسلحة ضد القوات المحتلة، أبرز سمات هذه المناطق، لدرجة أن اُطلِقَ على بعضها تسمية “مثلث الموت”، بسبب كمّ الهجمات الهائل ضد القوات الأمريكية التي شنت حملات عسكرية واسعة وهمجية ضد هذه أهالي المناطق، ولم تفرق بين مدني ومسلح، وارتكبت أفظع الجرائم بحقهم.

بدءًا من المداهمات المستمرة، والإعتقالات العشوائية، ومرورا بإطلاق النار على المدنيين بشكل متعمد وقتلهم في الشوارع، وصولا إلى جرائم الاغتصاب.

كسر الطوق

الأحزاب الموالية لإيران التي وصلت إلى بغداد على ظهر الدبابات الأمريكية بعد احتلال العراق، والتي تسلمَّت مفاتيح الحكم من واشنطن، كانت تعتبر مناطق “حزام بغداد” تهديدا كبيرا لها، نظرا لغالبيتها السنية.

لذلك عقدت العزم على كسر هذا الطوق بأي ثمن، سيما وأن طريق مئات الآلاف من الشيعة الذين يذهبون لزيارة المراقد الدينية يمر عبر “حزام بغداد”، وكذلك لإنشاء ممر شيعي يخترق هذه المناطق، بهدف ربط مناطق جنوب العراق ذات الغالبية الشيعية، بشيعة بغداد، وشيعة صلاح الدين وديالى، اللتان تقعان في شمالي العاصمة.

استثمرت الميليشيات المسلحة أحداث العنف الطائفي لتنفيذ مخططها الذي يقوم على إنهاء الوجود السني في “حزام بغداد”، وذلك عبر استغلال الفوضى، والفراغ الأمني، والفجوة الإجتماعية التي اتسعت كثيرا.

وتؤكد مصادر محلية أن المليشيات دمرت آلاف الدونمات الزراعية، وجرفت مئات البساتين التي كانت تغذي بغداد، وطمرت العديد من بحيرات الأسماك، والمسطحات المائية المتواجدة في هذه المناطق، فضلا عن تنفيذ حملات دهم واعتقالات ممنهجة طالت الآلاف من أبنائها، لإجبارهم على ترك منازلهم.  

وبحسب النائب في البرلمان العراقي، طلال خضير الزوبعي، فإن 80% من معتقلي العاصمة بغداد، هم من أبناء هذه المناطق. فيما كشف العضو السابق في لجنة الأمن والدفاع النيابية، مظهر الجنابي، أن بعض القيادات الأمنية في حزام بغداد “تبتز العوائل عبر اعتقال أبنائها”.

ولم تتوقف عمليات التطهير الطائفي في مناطق حزام بغداد، حتى بعد انخفاض أعمال العنف الطائفي داخل بغداد وباقي المناطق، إذ استمرت حملات الاعتقالات والترهيب فيها.

ما بعد داعش

ورغم هزيمة تنظيم داعش وطرده من “حزام بغداد” قبل نحو 4 سنوات، إلا أن الميليشيات، لاتزال حتى اللحظة تمنع الكثير من أهالي تلك المناطق من العودة إلى منازلهم.

وأكد النائب في البرلمان، رعد الدهلكي، أن عملية تغيير تركيبة السكان التي تجري بشكل واسع في مناطق “حزام بغداد” تتم بعلم الحكومة ووفق “إرادات خارجية”، في إشارة إلى إيران.

ويشير تقرير صدر عن منظمة العفو الدولية في عام 2018 إلى أن أكثر المناطق التي تعرضت للتغيير الديموغرافي، كانت في العاصمة بغداد وما حولها (حزام بغداد)، خاصة في منطقة جرف الصخر.

معسكرات ومسالخ سرية

“جرف الصخر” التي تقع ضمن مناطق حزام بغداد الجنوبي، مِن الشواهد على شراسة الحملة الطائفية ضد هذه المناطق.

فبعد استعادتها من تنظيم داعش، قامت الحكومة المحلية في محافظة بابل، التي تهيمن عليها الأحزاب التابعة للميليشيات، بتغيير اسم المنطقة إلى “جرف النصر” في عام 2016، سعيا لطمس الوجود السني فيها إلى الأبد، ومنذ ذلك الحين، أصبحت “جرف الصخر” خارج سيادة الدولة، إذ تسيطر عليها الميليشيات التابعة لإيران بشكل كامل، سيما ميليشيا كتائب “حب الله” العراقية. 

وتؤكد مصادر حكومية وإعلامية أن المنطقة تحولت إلى ساحة نفوذ إيراني، ومستودع كبير للأسلحة والصواريخ البالستية الإيرانية. 

معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط قال في تقرير له إن منطقة “جرف الصخر” أصبحت مضيفا للصواريخ البالستية الإيرانية، والتي يمكن أن تستهدف من هناك الأراضي السعودية، وباتت هذه المنطقة محرَّمة على المدنيين والقوات العراقية على حدٍّ سواء، بل حتى رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة، لا يستطيع الدخول إليها، بحسب تأكيد النائب رعد الدهلكي.

بناء الأضرحة الشيعية

من الأساليب التي اتُّبِعَت في عملية التغيير الديموغرافي في حزام بغداد، هي بناء الأضرحة الشيعية، والتي تهدف إلى توسيع الرقعة الشيعية، حيث يتم الإستيلاء على أراضٍ كبيرة، في هذه المناطق، لبناء أضرحة ومقامات، يُزعم أن أصحابها من ذرية “آل البيت”.

وعلى الفور، تحصل موافقة الحكومة العراقية على بنائها، ويقوم ديوان الوقف الشيعي، بمهمة الإشراف على هذه العملية، التي عادةً ما تحظى بتسهيلات كبيرة، وميزانيات مفتوحة.

من بين تلك الأضرحة، ضريح “إبراهيم بن مالك الأشتر” بين منطقتي المشاهدة والدجيل شمالي بغداد، وضريح “إبراهيم بن علي” في منطقة أبو غريب غربي بغداد، وكذلك ضريح “طاهر بن الإمام الباقر” في منطقة المدائن جنوبي بغداد، وغيرها.

وبعد إكمال عملية بناء تلك الأضرحة، تبدأ مرحلة توطين عائلات شيعية في تلك المناطق، بذريعة إدارة الأضرحة وإدامتها. ويتم استقدام هذه العوائل من مناطق وسط وجنوبي العراق.

واستكمالا لمشروع التغيير الديموغرافي، أصدر مجلس الوزراء العراقي، في جلسته رقم 175 لسنة 2019، قرارا بالإستيلاء على أكثر من مائة ألف دونم من الأراضي الزراعية المحيطة بمطار بغداد الدولي.

هذا القرار أثار قلقا شعبيا، وحراكا من برلمانيين سنة، سعيا لوقفه، كونه يهدف إلى إنهاء وجود العشائر السنية التي تسكن في تلك المناطق.

عضو البرلمان العراقي، عمار الشبلي، قال إن منح تلك الأراضي على سبيل الإستثمار؛ إنما هو في الواقع بمثابة “تهجير قسري” لآلاف المواطنين في مساحة 105 آلاف دونم.

أما القيادي السياسي، أحمد المساري، فقد أكد أن هذه المناطق مأهولة من عدد كبير من العشائر، والتي تسكن منذ مئات السنين فيها، ولديها سندات تثبت ملكيتها. 

بدوره، قال الناشط العراقي محمد العيساوي لـ”العدسة“: “إن جوهر المشروع الطائفي في حزام بغداد، لا يقوم على تحويلها إلى مناطق منزوعة السكان فحسب، وإنما يهدف إلى توطين عراقيين ينسجمون طائفيا مع المليشيات في هذه المناطق”

وأضاف العيساوي: “ولأجل ذلك رأينا الإرهاب الحكومي المدجج بالميليشيات؛ يرتكب أفظع الجرائم بحق أهلها، من قتل، واعتقال، وإخفاء قسري، وتفجيرات، وتضييق أمني”، ولفت إلى أن الأمر الذي ساعد على إنجاح هذا المشروع الطائفي هو “التوازن المحلي المختل لصالح البيت الشيعي، والتوازن الإقليمي المختل لصالح الجارة إيران”.